المصريون بحاجة لإجراءات عملية وليس لوعود جديدة

البنك المركزي المصري

من السهل على أي حاكم أو وزير أو حتى رئيس شركة أو جمعية أهلية تكليف إدارة العلاقات العامة التابعة له، بإعداد خطاب يلقيه في إحدى المناسبات العامة، والقيام بالتدرب على إلقائه من حيث النطق ولغة الجسد وغيرها، لكن الأصعب هو استطاعة المسؤول تنفيذ ما يعد به في خطابه، خاصة إذا كانت تلك الوعود موقوتة بزمن محدد لتنفيذها.

ومن هنا فقد نظر الكثير من المصريين – وأنا منهم – إلى الخطاب الرئاسي الأخير في مستهل الولاية الثالثة، إلى أنه لم يأت بجديد بل إنه خلا من تحديد مدد زمنية لتنفيذ ما جاء به، ولقد سبق للمصريين سماع تلك الوعود خلال السنوات العشر الماضية ، دون أن تنتقل إلى إجراءات عملية بالشكل المطلوب، تسبب نقلة نوعية في حياتهم اليومية، وتخفف عنهم الغلاء وتحسن من مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات، ويكفى أن يتذكر أي مسؤول عدد المرات التي تم الإعلان فيها عن مبادرات حكومية لخفض الأسعار وعدم تحقق تلك الوعود.

  وثيقة خروج الدولة من الاقتصاد لم تنفذ

ولنأخذ بعض الوعود التي وردت بخطاب بداية الفترة الثالثة للتدليل على ذلك:

تعزيز دور القطاع الخاص: حيث يشير الواقع العملي إلى تراجع نصيب القطاع الخاص خلال السنوات العشر الأخيرة، بسبب مزاحمة الكيانات الحكومية المتعددة له، حتى أنه عند طرح تنفيذ بعض المشروعات لم تعد المنافسة للتنفيذ تتم بين القطاع الخاص والهيئة الهندسية التابعة للجيش مثلا، بل أصبحت المنافسة بين العديد من الجهات التابعة لجهات عسكرية متعددة، والنتيجة خروج كثير من رجال الأعمال للعمل بالخارج سواء بدول الخليج أو بدول إفريقية، وربط كثير من المستثمرين الأجانب عودتهم للاستثمار بمصر بعودة المستثمرين المصريين أولا.

ودعم ذلك أنه رغم صدور ما سمى بوثيقة دور الدولة بالاقتصاد بنهاية عام 2022، والتي حددت المجالات التي ستخرج الدولة منها وتتركها للقطاع الخاص، فقد استمرت جهات تابعة للدولة ما بين هيئات وشركات في تأسيس شركات جديدة حتى اليوم، وما زال طرح حصة للبيع للقطاع الخاص بإحدى شركات الجيش التي تقوم بإمداد السيارات بالوقود، مُعطلا منذ سنوات رغم أنه تم مؤخرا تأسيس شركة جديدة تابعة للجيش للعمل بمجال إمداد السيارات بالوقود!

نهج المصارحة والمشاركة: وهذا أيضا ملف متخم بالعديد من صور عدم الشفافية، فمنذ منتصف عام 2020 لم يتم إعلان رقم الدين العام المحلى، وتم حجب بياناته التي كانت تعلنها عدة جهات حكومية دوريا، رغم أن الشعب هو الذي سيسدد هذا الدين من خلال ما يدفعه من ضرائب ورسوم.

حتى أرقام السياحة المصرية محجوبة منذ تولى الدكتورة رانيا المشاط وحتى الآن، ورغم تعاقب أكثر من شخص على الوزارة فلم يهتم أحدهم بالاتصال بجهاز الإحصاء للإفراج عن البيانات السياحية التي كان يصدرها منذ عقود، ونذكر مثالا آخر حدده الاتفاق مع صندوق النقد الدولي آواخر عام 2022، بنشر ميزانيات الشركات التابعة للدولة ومنها الشركات التابعة للجيش، وخرج وزير المالية ليعد بتنفيذ ذلك خلال الربع الأول من عام 2023، وها هو الربع الأول قد انقضى ولم يتم ذلك.

      دوافع سياسية لزيادة قرض الصندوق

وهو أمر يكشف كذلك عن أثر الدوافع السياسية المرتبطة بالموقف المصري من حرب غزة، في زيادة قرض الصندوق من 3 الى 8 مليارات دولار، حين ذكرت  مديرة الصندوق أن مصر قد أوفت بكل متطلبات المراجعة الأولى والثانية، فيما عدا رقم الاحتياطي من العملات الأجنبية، فى حين أن متطلبات الإفصاح والشفافية قد ذكرها الصندوق فى بيانه الصادر فى يناير/ كانون ثان 2023 كأحد شروط الاتفاق، والتي تضمنت أيضا إعلان وزارة المالية عن تصوراتها للضرائب خلال السنوات الخمس المقبلة حتى لا يُفاجأ المستثمرون بأعباء جديدة، وهو الأمر الذى وعد الوزير بإعلانه بالربع الأول من العام والماضي وهو ما لم يحدث حتى الآن.

 تعزيز المشاركة السياسية والديموقراطية خاصة للشباب: وهذا أمر لا يحتاج الى إيضاح حيث الصوت الواحد هو المهيمن على المشهد السياسي منذ سنوات، لدرجة عدم حضور المرشح الفائز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة لأي مؤتمر انتخابي، ولم يذهب إلى أية محافظة للدعاية لنفسه كما فعل مسبقا، وبالطبع لا يمكن أن نسمع عن مناظرة مع مرشح آخر، فكل ذلك تم توكيل شخص آخر للقيام به.

ومشاهد إسكات الصوت الآخر في المؤتمرات التي حضرها رآها الجميع، والذين يذكرون كلمته ” اسمع الكلام” بما يشبه الأمر في ثكنه عسكرية، وقوله “ماتسمعوش كلام حد غيرى“، والمواقع الإلكترونية المحلية والخارجية المحجوبة منذ سنوات، وبعضها تابعة لتركيا وقطر رغم الصلح معهما، وهذا البرلمان الصوري الذي أصبح الشائع هو إعطاؤه إجازة، وعندما تتم الحاجة إليه لإقرار عدة قوانين يتم استدعاؤه ثم عودته إلى الإجازة مرة أخرى.

ترشيد الإنفاق العام: وهو أمر لا يتسق مع بناء عاصمة إدارية جديدة، لا تمثل أولوية للبلاد المصابة بالعجز المزمن بموازنتها، وما تم بها من تشييد أكبر مسجد وأكبر كاتدرائية وأكبر صاري علم، وبناء مقار حكومية بينما ذهبت مقار الوزارات القديمة إلى الصندوق السيادي، وليس للموازنة العامة لتخفيف عجزها، وبناء مقر للبرلمان ولمجلس الشورى رغم عدم إحساس المصريين بأى دور فاعل لهما، رغم بلوغ مخصصات مجلس النواب بموازنة العام المالي الحالي  مليار و923 مليون جنيه ومخصصات مجلس الشيوخ 659 مليون جنيه.

 قضايا غابت عن الخطاب الرئاسي

الحوكمة: تعنى امتثال الحكومة  للقوانين في تصرفاتها، وعندما يرى المصريون توزيع عمليات إنشاء كباري على مقاولين فى مؤتمر عام، وهو ما يعرف بواقعة ” الحاج سعيد “، دون اتخاذ الإجراءات القانونية المعتادة من طرح المشروعات على عموم المقاولين، وتلقى عروضهم المالية والفنية واختيار أفضل العروض، وعندما لا تحصل المؤسسات المختلفة من برلمان وقضاء وحكومة على الصلاحيات اللازمة لعملها، واستحواذ مؤسسة الرئاسة على غالب الصلاحيات فهذا  مخالف للحوكمة، ونفس الأمر لعدم وجود  نائب للرئي ، وعندما تستمر وزيرة بالوزارة لمجرد أن لديها ابتسامة جميلة فهذا أيضا مخالف للحوكمة .

شبكات الأمان الاجتماعي : عندما يقل المبلغ الشهري الذى تحصل عليه الأسرة الفقيرة بمعاش تكافل ومعاش الضمان الاجتماعي حاليا بعد كل الزيادات، عن قيمة خط الفقر الذى تم تحديده في مارس/آذار 2020 ، أي قبل آثار كورونا على الأسر الفقيرة، فهذا يعنى استمرار الفقر، وأنها شبكات لا تحقق الأمان الاجتماعي المطلوب، وهو ما يدعونا للتساؤل عن عدم صدور بيانات مسح الفقر الذى أعده جهاز الإحصاء منذ شهور طويلة، حتى نعرف آخر معدلات للفقر وآخر قيمة لخط الفقر، حيث إن تأخير صدور تلك البيانات والتدخل لتحسينها مخالف لقواعد الحوكمة.

كان كثير من المصريين بحاجة إلى طمأنتهم على مصير الغلاء الذي يعانون منه، خاصة مع إصرار صندوق النقد الدولي على الاستمرار في رفع أسعار الطاقة والوقود، وعلى ملف الحريات والأشخاص المحبوسين منذ سنوات دون توجيه اتهام إليهم، والأشخاص الذين تم التحفظ على أموالهم وشركاتهم، وموعد انتهاء ظاهرة الفترات الدراسية بالمدارس بسبب نقص الفصول الدراسية. وكذلك موعد انتهاء ظاهرة العشوائيات حيث تم التركيز فقط على المناطق العشوائية الخطرة، وموعد انتهاء مشروع استصلاح مليون ونصف المليون فدان الذى بدأ عام 2014 ولم ينته حتى الآن، وملف مياه النيل، وموقف المتفرج الذى يتخذه النظام إزاء الإبادة الجماعية في غزة، وهى أمور لم ترد بخطاب الولاية الجديدة .

المصدر : الجزيرة مباشر