أخلاق رمضان موديل 1445!

صارت الشيشة من معالم شهر رمضان (رويترز)

الأصل في رمضان أنه شهر الرحمة بالفقراء والتكافل الاجتماعي، وفيه زكاة الفطر فضلا عن الصدقات الأخرى، كما اعتاد كثيرون إخراج زكاة أموالهم في رمضان طمعا في زيادة الأجر، والتخفيف عن الفقراء في المأكل والملبس.

وإذا كان بعض السلف يضعون حبال البلح على جدران بيوتهم كي يتناولها الصائمون عندما يحين موعد الإفطار، فقد شهدت العديد من القرى المصرية الواقعة على الطرق الرئيسية، ظاهرة إيقاف السيارات المارة على الطريق وقت الإفطار وتقديم البلح والعصائر والمشروبات لهم، وظاهرة موائد الرحمن بالشوارع.

وفي هذا السياق ذكرت بعض المواقع الإخبارية قبل أسابيع، أن الرئيس الأمريكي يسعى لعقد هدنة خلال أيام رمضان وعيد الفطر مدة 35 يوما، للتخفيف من الضغط الشعبي الذي يمكن أن يتعرض له حكام الدول العربية والإسلامية الحلفاء للأمريكان، نتيجة الحالة الروحية التي يعيشها المسلمون في رمضان وإقبالهم على المساجد، مما يساعد على وجود تجمعات يمكن أن تضغط على حكوماتهم لمساعدة غزة.

ولكنه يبدو أن أجهزة مخابراتية قد طمأنت الرئيس الأمريكي على أن حكام الدول العربية والإسلامية، قد استعدوا لرمضان بما يشغل شعوبهم عن معاناة غزة، من خلال المسلسلات والبرامج الترفيهية وجلسات السمر، واقتناء أنواع الطعام والحلويات والمكسرات والعصائر والمخللات، ليصابوا بالتخمة والكسل بما يجعلهم عاجزين أصلا عن الذهاب إلى المساجد أو تذكر حرب غزة.

 تكرار مذابح الدقيق في رمضان

والنتيجة استمرار المذابح في غزة بشهر رمضان بمعدلات زادت على ما قبله، وتراجع الرئيس الأمريكي عن وعوده بالهدنة مثلما تراجع عن كثير من تصريحاته، ليعود إلى حالة الدعم الكامل للعدوان الإسرائيلي، مع استخدام بعض الوسائل لإتاحة مزيد من الوقت للحكومة الإسرائيلية لإبادة شعب غزة.

وذلك مثل إلقاء مساعدات بالطائرات تسببت في مقتل بعض السكان، أو السعي لإقامة ميناء لتوصيل المساعدات إلى غزة عن طريق ممر بحري، بما يعطي شكلا إنسانيا للدور الأمريكي والغربي والعربي، الذي تحالف منذ اليوم الأول للعدوان على إبادة المقاومة.

ورغم تكرار ما أطلق عليه مذابح الدقيق التي زاد عدد ضحاياها على خمسمئة شهيد في خمسة أيام فقط فضلا عن مئات المصابين، واستمرار الضحايا بعد ذلك، حيث تستغل إسرائيل تجمع السكان في انتظار المساعدات لقنصهم، بعد منع الغذاء والدواء والوقود عنهم منذ بداية الحرب، ومع ذلك يقول وزير الخارجية الأمريكي خلال زيارته السادسة للمنطقة منذ بداية الحرب الحالية، إنه لا توجد شواهد حتى الآن على أن إسرائيل تستهدف تجويع سكان غزة!

وهو ما يؤكد أن تلك الزيارات سواء له أو لمسؤولي الدول الغربية للمنطقة، إنما تستهدف بالمقام الأول التنسيق مع الحكومات العربية لإبادة المقاومة وشعب غزة، عقابًا لهم على صمودهم طوال تلك الأشهر أمام الحرب الدولية التي تواجههم، وبحث مزيد من الوسائل لسرعة تحقيق هدف إبادة المقاومة والسكان، بعد إخفاق الوسائل التي تمت تجربتها مسبقا في تحقيق الهدف.

 تراجع أخلاق التكافل والتعاون والمشاركة

ونعود إلى أخلاق رمضان الإسلامية التي توارثتها الأجيال، من التكافل ومواساة الضعفاء وحب الخير والإيثار والتعاون والمشاركة والرحمة والإحسان، وهي الأخلاق الكفيلة باتخاذ موقف عملي مما يعانيه شعب غزة من مذابح طوال أكثر من خمسة أشهر متواصلة، لكن السياسات الدولية والمحلية نجحت في تنويم غالب الشعوب لتنشغل بحياتها اليومية وبمشاكلها الخاصة، لتتحول إلى دور المتفرج على الأحداث مثلما يسمعون عن أحداث في دولة بعيدة مثل هايتي.

وتناسى هؤلاء الحديث الشريف: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به”، وغيره من الآيات والأحاديث النبوية التي تحض على الأخوة وحقوقها وتبيّن فضل إطعام الطعام، وانشغلوا بعادات مستحدثة مثل زينة رمضان ومشاهدة المسلسلات وتعاطي الشيشة بعد الإفطار.

وأذكر أنه خلال مكالمة لي مع أحد رجال الأعمال سألني أين أتعاطى الشيشة؟ بعد تحولها إلى طقس رمضاني، بعد أن كان شائعا حتى عهد مبارك السؤال الرمضاني المعتاد: أين تصلى التراويح؟ حيث كانت المساجد تتبارى في جلب أصحاب الأصوات الشجية، أما الآن فالتعليمات الرسمية تحتم إمامة إمام المسجد المُعيّن من قبل وزارة الأوقاف، ولو كان في المصلين أساتذة ومشايخ بالأزهر.

 منع الدعاء لفلسطين بخطب الجمعة

وحتى الدعاء لفلسطين أصبح ممنوعا على خطباء المساجد في خطب الجمعة، بينما كانت المساجد في عهد مبارك تدعو بدعاء القنوت لأهل غزة في كل الصلوات عند العدوان عليها، وممنوع كذلك منذ بداية الحرب الحالية صلاة الغائب على شهداء غزة، لتكمل المساجد التي تم إشراف وزارة الأوقاف عليها منذ يوليو/تموز 2013 وتوحيد موضوع خطبة الجمعة فيها، نفس مشهد إعلام الصوت الواحد الذي يتبنى الرواية الإسرائيلية في نشر الأحداث.

وينقل عن وكالات الأنباء المعروفة بتحيزها إلى الجانب الإسرائيلي، ويسمح لبعض الأصوات بالهجوم على المقاومة والتقليل من إنجازها، ويتجاهل تماما أخبار المظاهرات المؤيدة لفلسطين بالعواصم الغربية أو حتى فوز نائب عمالي مؤيد لفلسطين في بريطانيا، ونفس الأمر لمواقف بعض دول أمريكا اللاتينية المؤيدة لفلسطين أو نحو ذلك، فعندما يعلن رئيس وزراء أيرلندا تأييده لفلسطين خلال مؤتمر صحفي جمعه مع الرئيس الأمريكي بواشنطن، لا تجد هذا الخبر في الإعلام المحلي.

ومثل ذلك مع مطالبة إسبانيا وأيرلندا في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الأخير، بمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بسبب استمرار عدوانها على غزة، وبالطبع لا شيء عن الوقفات الاحتجاجية التي تمت بنقابة الصحفيين المصرية، أو ما قامت به نشاطات مصريات في يوم المرأة العالمي، أو الحديث عن مصير من تم اعتقالهم بسبب مشاركتهم في مظاهرات من أجل فلسطين.

تدعيم الحرب النفسية ضد المقاومة

فالمطلوب تدعيم الحرب النفسية ضد المقاومة وسكان غزة، وهو ما تقوم به الفضائيات المملوكة لعدة دول عربية على مدار الساعة طوال الأشهر الماضية، لقتل روح الأمل التي يمكن أن تنشأ عن الصمود الأسطوري للمقاومة أمام تلك الحرب الدولية كل تلك الأشهر، وصمود شعب غزة رغم التجويع والاغتيالات وهدم البيوت والمجازر المستمرة ومحاولات شق الصف.

ونشر سلوكيات الأنانية والمصالح الذاتية والتمتع بملذات الطعام بينما يأكل سكان غزة الحشائش، وإذا كان البرلمان الكندي قد منع مبيعات السلاح لإسرائيل، فإن دولا عربية واسلامية مستمرة في تجارتها مع إسرائيل، ورغم دعوات مقاطعة السلع الأمريكية ردا على الدور الأمريكي الرئيسي في العدوان على غزة، جاءت بيانات التجارة الخارجية الأمريكية لعام 2023، لتشير إلى زيادة واردات 13 دولة عربية من الولايات المتحدة عما كانت عليه العام السابق، كما زادت واردات دول إسلامية رئيسية من الولايات المتحدة عن العام السابق.

وهكذا لم يعد التدخل الغربي والإسرائيلي قاصرا على تعديل مناهج التعليم بالدول العربية، ومنع كل ما يمت بصلة إلى مفاهيم الجهاد أو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل امتد إلى مضمون ما يتم بثه إعلاميا، لاستبعاد كل ما يدعم صورة الصمود الفلسطيني ويبث روح الأمل في إمكانية التغيير.

والنتيجة تبلد مشاعر الكثيرين إلا من رحم الله أمام الاحتلال الإسرائيلي لغزة منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما قامت به من مجازر وتجويع، بمشاركة العديد من الدول العربية، وأصبح المأمول فقط وقف إطلاق النار ولا حديث عن خروج القوات المحتلة، أو عقابها وإلزامها بإعادة إعمار ما هدمته من مرافق ومساكن، رغم أن فلسطين عضو في اتفاقية الدفاع العربي المشترك منذ عام 1950، أي قبل معاهدات السلام مع إسرائيل التي بدأت 1979 بمصر.

وهذا لتسود أخلاق جديدة غير مألوفة في رمضان 1445 من الهجرة، بين الكثيرين بالدول العربية والإسلامية، ستقوم الدول الغربية وإسرائيل وحلفاؤها من الحكام بالبناء عليها، بمزيد من الإجراءات لإبعاد الشعوب عن عقائدها وتاريخها ومصالحها وأمنها القومي، لتكون أسلس انقيادا وأكثر سلبية وأنانية وخضوعا سواء في رمضان أو في غير رمضان.

المصدر : الجزيرة مباشر