احذر أن يفوتك.. الذهب يخطف أبصار الصين!

تنانين ذهبية في أحد متاحف الصين (غيتي)

اربح الذهب قبل أن تفوتك فرصة اقتنائه، هذه نصيحة لكل من يرغب في شراء المعدن الأصفر أو التفريط فيه، واحذر فالصينيون قادمون.

فالذهب ترتفع أسعاره خلال الأشهر الماضية، في ظاهرة عجز كبار المحللين عن الإحاطة بأسبابها. وتُرفع عادة عندما يتراجع الدولار الأمريكي، العملة الأكثر تداولا عالميا، وقد يتحرك متأثرا باندلاع حروب إقليمية أو بأسعار النفط والطاقة، حيث تندفع الدول لشراء الذهب للتحوط ضد الأوضاع المتوترة، إلا أن رحلة الصعود الناعم في أسعار الذهب على مدار 18 شهرا حيرت الخبراء.

وصف محللو “فايننشيال تايمز” البريطانية ارتفاع سعر الذهب بأنه “الأكثر هدوءا وإرباكا”، بدرجة لم تمكن الخبراء من الإجماع على أسباب ارتفاعه، ودفعت محللي بنك “ستاندرد تشارترد” الذي يدير محافظ مالية لدول ومؤسسات كبرى إلى القول بأن “شهية المقبلين على سوق الذهب التي تدفعهم للاستثمار فيه بغرض التحوط غير معروفة”.

شغف الذهب

الشغف باقتناء الذهب تحول إلى ظاهرة شعبية في كل مصر والصين، واتجاه رئيسي بين مواطني الإمارات والسعودية وتركيا ودول جنوب آسيا. عندما ننظر إلى دولة كمصر تقع في ذيل ترتيب الدول المتوسطة الدخل، وفقا لمؤشرات البنك الدولي، فإن الناس يُقبلون على الذهب للتحوط من تراجع قيمة العملة المحلية، ولم يعنيهم زيادة سعره بما يفوق 15% عن قيمته بالبورصات العالمية، مع توقعات -ثبت صحتها مرارا- بأن الاحتفاظ بالجنيه يضاعف خسائرهم.

لذلك فإن الدولار يصعد في مصر في اتجاه متواز مع سعر الذهب، ولن يستقر ما دام الاقتصاد أعرج، يسير بدون رؤية. فالشعب الذي يأتي في مرتبة متدنية بين الشعوب بمعدل الادخار، يهرول نحو الذهب خوفا من “الخراب المستعجل” كما يقول خبراء الاقتصاد.

يشتري البنك المركزي المصري الذهب بإقحام قدراته على تدبير السيولة في شراء الذهب من السوق المحلية، ليشارك في فقاعة الأسعار، وعندما تنفجر الفقاعة تتناثر شظاياها في وجه المواطنين. ويبدو الأمر في الصين مختلفا، فالشعب والدولة “يد واحدة” بشغفهم باقتناء كميات هائلة وغير محدودة من المعدن النفيس بكل ألوانه وصوره من سبائك ومصوغات وتحف فنية ومنتجات محلاة أو مطلية بالذهب.

بوابة السيادة

حالة المواجهة بين الصين والغرب تزداد حدة في السنوات الأخيرة، ويختفى الانسجام مع حلفائها الذين ساعدوها على الخروج من حقبة المجاعات، تحولت إلى أكبر مصنع قادر على توليد منتجات وتكنولوجيا خاصة تهدد عرش الولايات المتحدة لتزيح ريادة الغرب على الكوكب الأزرق، بل والفضاء، وتتنافس على السيادة على القمر والمريخ. تبتعد الصين عن الدولار واليورو والجنيه الإسترليني، تربط عملتها بمجموعة واسعة من الدول، تعتمد على التبادل التجاري بالعملات المحلية، وتعيد مكانة الاقتصاد الحقيقي إلى الأسواق، بما يزيل قوة الغرب على إدارة المؤسسات المالية الدولية، ويخفف قبضة الدولار على الأسواق. يشتري البنك المركزي الصيني كميات هائلة يوميا من الذهب، ليتصدر قائمة أكثر البنوك المركزية شراء للذهب عام 2023، بإجمالي 2235 طنا في فبراير/شباط الماضي.

تستورد الصين نحو 600 طن من الذهب، لمواجهة استهلاك متزايد يبلغ 984 طنا متريا سنويا، في صناعة المعدات التكنولوجية كالهواتف والأقمار الصناعية والكمبيوتر والأجهزة الصوتية، والمجوهرات والتحف. تفوقت الصين على الهند التي ظلت أكبر مستهلك للذهب عالميا، حيث تراجعت إلى المرتبة الثانية باستهلاك 849 طنا سنويا، وهناك بون شاسع مع الولايات المتحدة التي تستهلك 190 طنا في العام، رغم احتفاظها بصدارة قائمة الدول التي تستحوذ على احتياطي نقدي من الذهب عالميا بنحو 8133 طنا، تليها ألمانيا 3353 طنا ثم صندوق النقد الدولي 2814 طنا وإيطاليا 2452 طنا وفرنسا 2437 طنا، حسب تقديرات مجلس الذهب العالمي في أغسطس/آب 2023.

عودة إلى البرجوازية

فورة الذهب عند شعب تعداده 1.5 مليار نسمة، ظاهرة متأصلة لدى عائلاته العريقة تشكلت عبر حقب إمبراطورية ممتدة منذ ما قبل الميلاد، واستمرت حتى منتصف القرن الماضي. في زيارة لمنطقة حفائر بمقاطعة ستشوان جنوب غربي الصين، رأينا أقنعة من الذهب الخالص وتحفا يُقدَّر عمرها بنحو 4500 عام. عثر العلماء على شعار مصنوع من رقائق الذهب النقي تبدو كورقة شجر دائرية كالساقية، تحولت إلى علم لجزيرة هونغ كونغ، تعيد الذاكرة إلى الاستخدامات نفسها التي برع بها المصريون القدماء في صناعة الأقنعة والتوابيت الذهبية الفائقة الدقة والجمال مثل قناع “توت عنخ آمون”.

شاهدنا معابد بوذا التي لم تدمر على أيدي الشيوعين، وأكبرها بمدينة هانغتشو الساحرة، يظهر فيها طلاء معبد وتماثيل “بوذا” بالذهب الخالص. يُدهش المرء عندما يزور القصر الامبراطوري، فيجد على مداخل قصور المدينة المحرمة وسط العاصمة بيجين مباخر نحاس ضخمة بارتفاع 2.5 متر، بها آثار طلاء سميك من الذهب الخالص، وأخرى ذهبية تعرضت للتخريب على أيدي قوات الجيش الأحمر. قال أساتذة جامعة بيجين والمرشدون الذين رافقونا لمشاهدة مقر الإمبراطورية، إن الشيوعيين كانوا يمحون الذهب بكشطة بالسكين، بوصفه رمزا للبرجوازية “المتعفنة”، وأثرا لـ”العهد البائد” يجب محوه.

صادر الشيوعيون الممتلكات الخاصة من الذهب، ولاحقوا من يرتديه، بما دفع الأجيال الجديدة إلى نسيانه، وعندما توافرت الأموال مع جني عوائد الانفتاح الاقتصادي، استأثر أثرياء الصين بشراء 30% من مبيعات الساعات السويسرية الفاخرة عام 2023، ويتفاخر الشباب باقتناء أغلى السيارات والألماس والتحف.

القرش الأبيض لليوم الأسود

الآن تبحث الأسر الصينية عن الذهب ولن ترجع عنه لسنوات، لمواجهة فترة عصيبة تمر بها البلاد، تُجبَر الطبقة المتوسطة التي تُعَد من أعلى الشعوب ادخارا، تُقدَّر بـ400 مليون نسمة، على الحد من خسائرها التي تعرضت لها أثناء فترة انتشار كوفيد-19 وما بعدها. أصاب الركود القطاع العقاري الذي كان يجذب مدخرات العائلات، ويشكل 30% من الناتج القومي. تتراجع أسعار العقارات بشدة منذ عامين، ويمر السوق بحالة ركود، وتخشى الأسر من تبديد ثرواتها في سوق الأسهم، بعد أن تلقت خسائر فادحة في أزمات متتالية.

يؤمن الصينيون بأهمية الادخار لمواجهة “الأيام الممطرة”، أو كما يقول المصريون “القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود”. وقد بدأت في الصين تحديات جديدة، تدفع الشباب إلى اقتناء الذهب وشرائه لمراسم الزواج. نشطت الشركات في بناء سلاسل تجارية متخصصة في صناعة الحلي الذهبية، يتحول بعضها إلى بيوت “موضة” عالمية تنافس الشركات الغربية بجنوب آسيا وتتجه نحو الأسواق الغربية.

يرى الصينيون أن نور الذهب يخطف أبصارهم للخروج من حالة القلق من الغد، التي أصابتهم من تراجع مستويات الدخل والنمو، والتحوط من مخاطر تصاعد الصراعات والأزمات المالية.

المصدر : الجزيرة مباشر