«غزة» على الشاشات.. غير «غزة» في القصيدة

أطفال غزة

حتى لو تعددت الروايات، فإن كل شيء بات عاريًا أمام الكاميرات، مفضوحًا على صفحة ملايين الشاشات؛ على الهواء تلفظ الراجمات نيرانها، وتطلق صافرات الإنذار أبواقها، وتنفجر الأهداف، وترتكب المجازر في المدنيين.

على الهواء تُقتل النساء والأطفال والعجائز، ويُستهدف الصحفيون والأطباء وعمال الإغاثة، وتُقصف المستشفيات والمساجد والكنائس، وتُحفر وتُنبش القبور الجماعية، وتنطلق الصواريخ في وداعها مراسل وفي استقبالها زميله المراسل الآخر، كل شيء بات موثقًا مصورًا، كل ما في الحرب من خسة أو نبل شجاعة أو جبن، وحشية أو فداء أضحى يمتلك بدلًا من الدليل المصور الواحد ألف دليل.

صحيح أن المقاطع الواقعية المصورة التي أبرزت مشاهد الحرب المدمرة لها تأثير بالغ بدليل ما يحدث من حراك وتضامن دولي من قبل أحرار العالم وفي القلب منهم حراك طلبة الجامعات الأمريكية.

وبدليل آخر هو اعتراف قادة الكيان الصهيوني بالفشل في الساحة الإعلامية والدعائية على مستوى العالم، رغم ما تمتلكه إسرائيل وداعموها من إمبراطورية إعلامية ضخمة تضم كبريات الصحف والقنوات ووكالات الأنباء في العالم.

ومع أهمية وقوة المقاطع الواقعية المصورة، إلا أنها لا تغني عن سلاح إبداعي آخر يتم إهماله الآن رغم أهميته على المدى القصير والطويل وهو “أدب الحرب” حيث الإبداع الذي ينبت تحت أمطار القصف فينمو حتى يصبح كالطود الشامخ.

فالأحداث الواقعية المصورة حتى مع دقة النقل تبقى عابرة مقتطعة من سياق زمني ومكاني، دون ملابسات وسياقات وخلفيات ومشاعر وأحاسيس وتاريخ وهذا ما يفعله الإبداع سواء في قصيدة أو قصة أو رواية أو فيلم أو لوحة فنية، ولذلك فهو على المستوى البعيد أطول عمراً، وأكثر تأثيرًا ورسوخًا وأسهل وصولًا للمتلقي مع مرور الزمن.

وداعًا للسلاح

ربما يتفق معي الكثيرون أن قراءة رواية “وداعًا للسلاح” للروائي الأمريكي إرنست هيمنجواى الحائز على جائزة نوبل في الأدب والتي تحكي عن الحرب العالمية الأولى أكثر تأثيرًا وأطول عمرًا من وثائقيات وكتب عن تلك الحرب، وقد اعتمد همنجواى في كتابته للرواية على خبرته السابقة إثر مشاركته كجندي في الجبهة الإيطالية.

وفي نفس الاتجاه ربما لم تدرك الأوساط الثقافية الأوروبية حجم بشاعة حرب البوسنة والهرسك المرعبة والتي استمرت من عام 1992 وحتى عام 1995م إلا بعد قرؤوا رواية “مخاوفي السبعة” للكاتب البوسني سلافيدين أفيدتش، وهي الرواية التي أدرجتها الجارديان البريطانية ضمن أفضل كتب 2014 رغم صدورها في البوسنة عام 2009.

وعن قدرة الإبداع على الالتقاط والتركيز على نواحي يصعب روايتها بالشكل الأمثل خبريًا؛ ففي خلفية تقارير المراسلين على الفضائيات تُسمع صوت “الزنّانة” وهي طائرات استطلاع إسرائيلية تكاد لا تُرى بالعين المجردة، تقوم بمهمات التصوير والتعقب للأهداف المختلفة، إضافة إلى صوتها المزعج الذي يُشعر أهل غزة بالخوف والقلق والاستجابة لهاجس الإذعان.. ومهما قص المراسلون عن العيش تحت وطأة صراخ “الزنانة”، فإنهم لن يعبروا أو يمسكوا بزمام تلك المشاعر كما فعل الروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف من خلال كتابه “الزنانة تأكل معي” وهى رواية مكتوبة بشكل يشبه المذكرات اليومية التي سجلت من واقع الحياة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 وتناولت وحشية وبشاعة القصف بلغة أدبية تحكي عن معاناة الضحايا في وجه آليات المحتل المدمرة، وقد نالت الرواية استحسانًا، وحققت انتشارًا وتأثيرًا مهمًا على المستوى العربي والدولي.

ومن روايات أدب الحرب عن غزة في السنوات الأخيرة رواية “ليل غزة الفسفوري” لوليد الهودلي والتي تدور أحداثها وقت العدوان على غزة في أواخر 2008، حيث كان المؤلف معتقلًا في النقب، حيث تعبر الطائرات في سماء المعتقل لتحيل ليل غزة إلى ليل فسفوري.

غزة التي في القصيدة

وبخلاف قوة التأثير والقدرة على البقاء في الذاكرة البشرية، ينجح الإبداع في تسجيل والتقاط أشياء وأحداث وخلفيات وسياقات تعجر عن سردها القصص والروايات والمعالجات الخبرية، فأي خبر قد يحكي ما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش:

“إن سألوكَ عن غزة

قل لهم: بها شهيد

يسعفه شهيد

ويصوره شهيد

ويودعه شهيد

ويصلي عليه شهيد

وأى خبر قد يروي ما أنشده نزار قباني عن غزة حين قال:

كيف تغدو دراجة الطفل لغمًا وشريط الحرير يغدو كمينا

كيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا

يا تلاميذ غزة لا تبالوا إذاعتنا ولا تسمعونا

….

هاتوا حبالكم واشنقونا

نحن موتى لا يملكون ضريحاً ويتامى لا يملكون عيونا

قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا

قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا

اضربوا اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا.

وأى أخبار تلك التي ستظل حية ومعاصرة مثلما يظل الإبداع حياً لعقود وربما لقرون، فتلك القصيدة التي كتبت قبل عشرات السنين، إلا أن أبياتها تصف الواقع الآن وكأنها كتبت له، يقول الشاعر السوداني عبد الله الطيب المتوفي عام 2003 في قصيدة:

“هى غزة وكأنما هى كربلاء”

الموت يجتاح المدينة والأسى.. ليل طويل والناس تبحث عن ضياء الصبح أو ضوء ضئيل

وأظافر الأيام يكبر خدشها والخوف غطى الدرب واجتاح النخيل

والناس تعبر فوق أشلاء الزهور

دماؤهم في الدرب شلال يسيل

…..

هى غزة وكأنما هى كربلاء

نفس المجازر والتدهور والبكاء

…..

طفل بريء يصرخ فوق صدر

الدرب يصرخ في الهواء

أماه قومي لا تنامي في العراء

الخوف يا أمي يطاردني

كظلي في الأزقة والخواء

تتطاير الأشلاء في رحب الفضاء

فتعثر المسكين أعياه البكاء

 

المصدر : الجزيرة مباشر