حواران مهمان للقرضاوي فُقدا تماما

الشيخ يوسف القرضاوي

كثيرون حاوروا الشيخ القرضاوي رحمه الله، ونشرت حواراتهم معه، وقد حاول جمع بعض هذه الحوارات في كتاب بعنوان “لقاءات ومحاورات” في جزأين، ولكل حوار من هذه الحوارات -بلا شك- قصة، وخلفيات مهمة قبل وأثناء وبعد الحوار، سواء من حيث ردود الجمهور والقراء على ما طرحه من أفكار، أو ما صاحب الاتفاق على الحوار، وإجرائه، وملابسات الحوار، كل هذه قصص وحكايات تظل في ذاكرة من أجرى الحوار، سواء كان صحفيا أو جهة إعلامية، أو من جرى معه الحوار نفسه.

وكانت هناك كتب صدرت للشيخ، ولكنها فُقدت، مثل روايته الشعرية الأولى، وهي أول ما أصدره مطلقا، وهي رواية بعنوان “يوسف الصدّيق”، وكانت عن قصة نبي الله يوسف شعرًا، وكان القرضاوي وقتها في الابتدائية الأزهرية، وبحثت عنها فترة ثم عثرت عليها، في نسخة قديمة جدا، وتكاد تتهالك، وينقص منها صفحات قليلة من نهايتها، وكان القرضاوي يقول لي ضاحكا: هذه الرواية كلها يوسفيات، وهي مفقودة، فهي عن يوسف الصديق عليه السلام، وكاتبها يوسف القرضاوي، وطبعتها مطبعة اسمها المطبعة اليوسفية، وبعد فترة تم العثور عليها كاملة والحمد لله.

لكن المفارقة العجيبة في حوارات القرضاوي، أن له حوارين مهمين جدا، وقد فُقدا تماما للأسف، ولا أمل في استرداد أي منهما، وللحوارين قصتان مهمتان، أذكرهما بتفاصيلهما لأهمية ذلك في حياة القرضاوي، من حيث التاريخ الذي تم فيه الحواران، والمحاور التي تم طرحها.

مع حملة جيهان الحلفاوي الانتخابية

أما الحوار الأول فقد كان بطلب من الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وقد كانت السيدة جيهان الحلفاوي حرم الدكتور إبراهيم الزعفراني مرشحة بدائرة في الإسكندرية عن جماعة الإخوان المسلمين، وقد كان أبو الفتوح مقداما في أي فكرة تطرح، أو مشكلة تعرض للعمل الإسلامي بوجه عام، والإخواني الدعوي بوجه خاص، فاقترح الزعفراني أن يتم تسجيل كلمة في فيديو للقرضاوي، يشرح فيها جواز ترشح المرأة، لأن هناك أصواتًا داخل جماعة الإخوان ترفض ترشح جيهان الحلفاوي، وذلك تأثرًا بالخطاب السلفي المحيط بالإخوان في الإسكندرية وغيرها.

وتعجب أبو الفتوح من أن مثل هذه الأصوات ما زالت موجودة في الجماعة، فاتفق مع الزعفراني على أن يكلف بعض الشباب من القاهرة بترتيب ذلك عن طريق مصور، ويذهب إلى الشيخ في بيته بالقاهرة، وكنا وقتها في إجازة في مصر، واتصل بي أبو الفتوح لترتيب ذلك مع الشيخ، فاقترحت اقتراحا أكثر إفادة وعملا، وهو أن تأتي جيهان الحلفاوي بأهم شخصيات تعمل معها في حملتها الانتخابية من الأخوات والإخوة، ويذكر كل منهم أهم الشبهات والأسئلة التي تطرح عليه عند مواجهة الناس، وتطرح على الشيخ، ويجيب عنها، وتسجل بالفيديو، وتفرغ إن شاؤوا مكتوبة، ويستفاد من المادة العلمية، فهذا أفضل من كلام مسجل، بل سيكون معبرا عن الواقع، وعن أسئلته، وفيه حوار مفيد ومثمر.

تشجع أبو الفتوح والزعفراني للفكرة، وأعجبوا بها، وبالفعل أرسلوا مجموعة من الأخوات وبعض الإخوة من حملتها، ومن القاهرة، وأحضروا معهم كاميرا التسجيل، ودار حوار طويل، طرحت فيه الأخوات كل ما يثار ضد ترشح المرأة من شبهات تثار باسم الشرع، وكانت أجوبة الشيخ مهمة ومفيدة جدا، وكانت الأسئلة صريحة وكاشفة لكل ما يواجههن من شبهات تثار حول الترشح، وحول نزول المرأة للجولات الانتخابية، وقضايا أخرى كثيرة تتعلق بالعمل العام والجماهيري للمرأة.

وتم اللقاء والحمد لله، وخرجوا جميعا فرحين باللقاء، ومقتنعين بما طرحه القرضاوي من حجج وأسانيد، ولم نطلب نسخة من التسجيل، حيث إنه كان أشبه بحوار خاص، يحتاج إلى فترة من الزمن حتى يتاح للعموم، كشأن مثل هذه الحوارات الخاصة.

حوار شامل وجريء لإسلام أون لاين

أما الحوار الثاني، فقد كان بطلب من موقع إسلام أون لاين، الذي كان رئيس مجلس إدارته آنذاك القرضاوي، وطلب مني القائمون على القسم الشرعي إجراء حوار مع الشيخ، أطرح فيه أهم القضايا المثارة في أفكاره، ويكون مطولا وشاملا لعدة قضايا مهمة، سواء فيما يتعلق بالفقه السياسي، أو التجديد الفقهي، ووافقت على ذلك، شريطة أن يؤمنوا هم الجانب التقني والفني، فعليّ فقط الحوار، وعليهم ما يتعلق بالتسجيل، والحفظ، والإرسال، واتفقنا على ذلك.

ذهبت إلى الشيخ في الموعد المحدد، وجلست أقلب محاور النقاش معه، في اتجاهات متعددة، من الفقه السياسي إلى الجنائي، من حد الردة والرجم، وقضايا المرأة، وما أثير حول فتواه في جواز قتال المسلم الأمريكي في الجيش الأمريكي، وتراجعه عن فتواه، وكان الشيخ مفصلا وشارحا، وتركت له المجال للحديث دون مقاطعة، وقد أبدى بعض النظرات النقدية لمسيرة البنوك الإسلامية، وأنها ظلت حبيسة معاملات محدودة، كالمرابحة، ولم تبرز إلى الآن الوجه الحقيقي للاقتصاد الإسلامي، وملاحظات أخرى، لم يعلنها الشيخ، ولم يكتبها للأسف فيما بعد.

واستمر الحوار ما يقرب من ساعتين، وكنت أستفز الشيخ في بعض المحاور، عندما يجيب، فأحضر له كلام المعارضين، وأحيانا آتي بما يمكن أن يعن في نفوس المخالفين فيرد عليه، وكان رحب الصدر، وطرح أفكارا مهمة في الحوار، لم يكتبها من قبل، وخرج من اللقاء سعيدا، وأثنى على الموضوعات المطروحة، واقترح أن نفرغ الحوار لينشر مستقلا، بعد نشره على موقع إسلام أون لاين.

خرجنا من الحوار، بعد انتهائه، لنصلي الظهر في مكتب الشيخ، وصعدنا إلى الطابق الثاني في مكتبته للصلاة، وصلينا الظهر، وكعادة الشيخ يكون جالسا على الكرسي للصلاة، وأسرّ إلي في أذني الأخ الموكل بالتسجيل بصوت خفيض جدا، فقال لي: هناك مفاجأة، بل مصيبة، ولا ندري كيف نتصرف؟ قلت: ماذا حدث؟ فقال الأخ: لقد نسينا أن نضغط على زر التسجيل عند بداية الحوار، ولم يسجل حرف واحد من الحوار!!

فقلت له: إنها كارثة، فأخبروا الشيخ بهدوء، فقال لي: لا نستطيع إخباره، تستطيع أنت إخباره، أما نحن فلا، ولكن انتظر حتى نخرج، انتظرت حتى انصرف معظم الحضور، ثم ملت قليلا على الشيخ، وكان يحتاج إلى رفع الصوت حتى يسمع، فقلت له: يا مولانا، ما رأيك في الحوار الذي أجريناه؟ فقال: حوار عظيم، ومهم جدا، وقد فتح الله عليّ فيه. فقلت له: لكن هناك مشكلة، أخبرني بها الشباب، تتعلق بالصوت في الحوار، فقال: ماذا؟ هل الصوت خفيض، لا مشكلة، قلت له: لا، ليست في خفض الصوت، بل في عدم وجود صوت أصلا. فقال: يعني الصوت مفقود في بعض فقرات أو جمل؟ قلت له: لا، بل في كل الحوار، أي: كأنه لا حوار بالأساس، فعظم الله أجرك، وشكر سعيك.

هنا بلغ الغضب من الشيخ مبلغه، وكان رحمه الله رغم غضبه لا ينال ممن أغضبه، لا بالقول ولا الفعل، ولكنه يفرغ غضبه بكلام عام، لا يمس من أغضبه، فقال لي بصيغة الجمع: ألهذه الدرجة وقتي لا قيمة له؟! هل أوقات العلماء عبث، حتى تستهينوا بها، ألهذه الدرجة تهدرون وقتي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، وظل يكررها، مع تأنيبه وعتابه العام، باحترام وقت العلماء، وعدم إهداره، وطبعا صوت الشيخ جهوري، فسمعه كل من في المكتب.

أسرعت بالخروج من المكتب، لأن وجودي سيجعل عتابه يستمر لفترة، ففضلت الخروج، بعد أن ألقيت السلام ومشيت مسرعا، كلمت القائمين على موقع إسلام أون لاين بما حدث من مشكلة، وأني تحملت مواجهة الشيخ بالخطأ، رغم عدم مسؤوليتي، فألحّ عليّ الأخ الذي كلمني، باستدراك ذلك، وقال لي: إن ذاكرتك قوية، وأنت تعي كلام الشيخ جيدا، فيمكنك أن تتقمص شخصية الشيخ، وتحاول استعادة ما يمكن إدراكه من حوار الشيخ، قلت للأخ: لكني كنت أكثر تركيزا مع كلامه كي أسأله، ولكني سأحاول.

وبالفعل حاولت الضغط على ذاكرتي قدر الاستطاعة، وكتبت الحوار كاملا، فيما دار في الساعتين، قدر استطاعتي، واستعدت ما يقرب من ثمانين بالمائة من الحوار، وكتبته، وهو بالأصل حوار يقوم فيه الصحفي بما يسمى الاختزال الصحفي، فليس كل ما يقوله الضيف يكتب بوجه عام، وبالفعل ذهبت للشيخ بالحوار، فسأل: هل وجدتم الحوار؟ قلت له: لم نجده، لكني كتبته من خلال ذاكرتي، وهو أمامك يقبل الحذف والإضافة، فنظر فيه وقرأه، ثم قال: هذا ليس كل ما قلته، هناك عبارات منسية، وتألق الحوار مفقود، وحرارة النقاش غائبة، فقلت له: يا مولانا، ما لا يدرك كله، لا يترك كله، هذا ما لدينا، فقبل بنشر ما أسعفتني به ذاكرتي، ونشر الحوار مكتوبا، ولكنه فقد تماما صوتيا، ولم يعد الصوت ولا المكتوب موجودا كذلك للأسف.

مصير حواره مع حملة الحلفاوي

دارت الأيام وجاءت انتخابات مجلس الشعب المصري لسنة 2010، ورشح الإخوان الدكتورة مكارم الديري، وأراد الإخوان تكرار تجربة الحوار السابق في انتخابات جيهان الحلفاوي، فلما جاء أبو الفتوح والزعفراني لزيارة الشيخ، وطلبوا منه اللقاء، وكانت ملاحظة الشيخ: أن الزعفراني وأبا الفتوح وهو نفسه كانوا ضد نزول الإخوان لهذه الانتخابات لعدم وجود ضمانات تضمن نزاهتها، ولكن الإخوان قرروا النزول، فلاحظ الشيخ أن الذين سعوا لعمل الحوار والمادة مرة أخرى، هم الرافضون للترشح، وليس من وافقوا، وتمنى أن يفهم الإخوان أن من يعارضهم هو الحريص على مصلحتهم، وليس معاندا لها، بل يرجو لهم الخير بنصحه. ولما طلبا حوارا جديدا مع الشيخ، قال لهما: عندنا حوار سابق، لماذا لا يستفاد منه؟ فقال له الزعفراني: يا مولانا، الحوار السابق كان جميلا ومهما، ولكن الأخ الذي سجل شغل الكاميرا، ولم يشغل الصوت، فالفيديو صورة فقط، ولا يوجد به صوت.

خشي الزعفراني من غضب الشيخ، ولكننا فوجئنا بالشيخ يضحك، ويقول لنا: لا عليكم، فقد فعلها عصام من قبل، وتحصل في أحسن العائلات، وحمدنا الله على أنه لم يعد فقد الحوارين بالنسبة له سوى ذكرى، ولكن بلا شك فقدان المادة العلمية للحوارين خسارة كبرى، وبخاصة ما دار فيهما من أفكار مهمة، ونقاشات فقهية وفكرية كان القرضاوي فيها متألقا كعادته، وهذا هو الحال مع الوسائل الحديثة، فبقدر سرعة خدماتها، يكون فقدان المادة فيها، صعب التعويض.

المصدر : الجزيرة مباشر