غياب الفن والدراما الدينية عن رمضان

الفنان نور الشريف في أحد أدواره الدينية

أيام قلائل جدا تفصلنا عن شهر رمضان الكريم، هذا الشهر الذي كان له بريقه في الفن والدراما المصرية على مدار عقود متوالية، لم تخل منه الساحة الفنية المصرية على كل مستوياتها، لكن الملاحظ أنه منذ سنوات بدأت تغيب الدراما الدينية والغناء الديني عن شهر رمضان في مصر.

فقد كان الاستعداد الشعبي يتم قبل رمضان بأيام بتعليق زينة رمضان، وعلى المستوى الرسمي في التلفزيون المصري يتم بث أغاني رمضان، التي ارتبطت بها الذاكرة المصرية، على المستوى الإسلامي والمسيحي، فهناك مراسم محفورة في ذاكرة المصريين، منها: أغاني رمضان، وقرآن المغرب للشيخ محمد رفعت، وابتهالات وأدعية الشيخ النقشبندي بعد الإفطار مباشرة، وكان لي جيران مسيحيون يقولون لي كلما سمعنا الشيخ رفعت، يذكرنا بمغرب رمضان قبل الإفطار عندكم.

غياب الفن الغنائي الديني

اختفت تماما كل هذه الذكريات -أو كادت- من الواقع المعيش، لأنه لم يتم البناء عليها، ولم يعد للناس سوى استدعاء هذه الأغاني الرمضانية مثل “مرحب شهر الصوم مرحب” لعبد العزيز محمود، و”وحوي يا وحوي” لكارم محمود، و”رمضان جانا” لمحمد عبد المطلب، وغيرها، وعند ختام الشهر “لسه بدري يا شهر الصيام”.

انتهى هذا الشكل الفني، وبعض المحاولات التي تمت بعد ذلك، لم تصمد في وجدان الشعب المصري لتحتل مكان القديم، أو تدانيه، فقد جاء الشكل والمضمون مختلفين تماما عما كان، سواء على مستوى الكلمات، أو الألحان، أو أداء المطرب. كانت الأغاني السابقة تراعي مقام الشهر، من حيث الكلمات التي تخاطب الوجدان، وترقق المشاعر، ومعها ألحان بسيطة وهادئة، وأداء فيه مراعاة لهيبة الكلمات، حتى عندما غنى عبد الحليم حافظ أغانيه الدينية، فرغم شهرة عبد الحليم بالتجديد في الألحان، والتفاعل مع الجمهور على المسرح، فإن أغانيه الدينية راعت مقام الغناء، وكلماتها على مستوى الأداء والألحان كذلك، وهو ما غاب للأسف عن الأغاني التي حاولت أن تأتي بعد هذا المستوى.

غياب الدراما الدينية

وكان شهر رمضان في المجال الدرامي كذلك موسما مهما للشعب المصري، سواء من حيث المسلسلات الاجتماعية أو الدينية، فكانت حصة الشهر بوصفه شعيرة للمسلمين لا تخلو من مساحة مهمة تتناسب مع مقامه عند المسلمين والمصريين كذلك، ففي كل عام يظهر ما لا يقل عن عملين أو ثلاثة أعمال دينية.

منذ سنوات لم نعد نرى أعمالا درامية دينية، لا على مستوى الإنتاج الفني الخاص، ولا العام المملوك للدولة، فكل الأعمال منذ سنوات عدة أعمال تتعلق بالبلطجة والمخدرات، ورجال الأعمال، وما يسير في هذا الفلك، بعد أن كانت من قبل هناك شركات إنتاج فني تنتج أعمالا دينية، فإن خلا العام منها، قام قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري المملوك للدولة بالإنتاج.

وليس السر في ذلك راجعا فقط إلى احتكار الإنتاج لشركة واحدة، تابعة للمخابرات، وهي شركة المتحدة، وهو سبب رئيس وكبير بلا شك، حيث تغير نمط التفكير في الإنتاج، وتغيرت كذلك الرؤية لما يريده الجمهور، أو ما يراد بثه في الجمهور، وساد البعد عن قضايا قد تلامس الهاجس السياسي لدى الناس، وإن كان عن طريق عمل ديني، وهو ما نبه إليه كثيرا الفنان الراحل نور الشريف، من قضية أجندات المنتجين، وما يراد بها من فرض موضوعات على المسار الدرامي والسينمائي.

عوامل وراء الغياب

وللإنصاف، إن كان عامل الإنتاج سببا رئيسيا، فإن هناك أسبابا أخرى مهمة، لا تقل أهمية عنه، فالإنتاج وحده لن يصنع عملا دينيا، أو دراميا جادا، فهناك عاملان مهمان، وهما الكاتب، والفنان، فقد كانت الأعمال الدينية السابقة تقوم على روايات أو قصص دينية كتبها كتاب كبار، جمعوا بين المعلومة التاريخية والدينية، وبين الثوب الأدبي القشيب الذي يقدم فيه العمل.

سواء في ذلك من كانوا مشهورين من عمالقة الكتابة في مصر والعالم العربي، مثل طه حسين، وعبد الحميد جودة السحار، وعلي أحمد باكثير، وعبد الرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ، وأمينة الصاوي، أو الجيل الذي تلاهم، وكان يمتلك ناصية البيان، ويكتب بلغة فصيحة مفهومة، وليست صعبة ولا عسرة على المشاهد، مثل عبد السلام أمين، وغيره.

والذين يميلون إلى الكتابة الدينية الآن من المعاصرين الحاليين، تربطهم -للأسف- أجندة تعلن أو تختفي، ولا يتناولون إلا ما يتعلق بالتشكيك في الثوابت أو زعزعتها، أو الحديث عن أمور دينية لا تملأ العقل، ولا تخاطب الوجدان الديني الصحيح، كل ذلك بعيدا عن مراجعة أهل العلم والمختصين، كما رأينا في بعض أعمال إبراهيم عيسى. وقد كان العمالقة الكبار السابقون تمر أعمالهم على مراجعة الأزهر من دون حرج، أو رفع قميص “محاربة الإبداع”، الذي لا يتقن هؤلاء سواه.

وإذا كان لدينا جيل من الكتاب، يعد من الغرباء عن الثقافة الإسلامية، والأدب العربي الرصين المفهوم السلس، فلدينا أيضا جيل من الفنانين انقطعت صلته بلغته العربية الفصحى، فلا يقوى على التمثيل بها، بعد أن كان الفنان المصري لا يعد فنانا إلا بعد تمرسه بالمسرح، من خلال روايات وأعمال عربية وأجنبية.

فكان قلما يوجد من الفنانين الكبار من يعجز عن تقديم عمل عربي فصيح، فعميد المسرح العربي الفنان يوسف وهبي، قدم العامي والفصيح، العربي والغربي، بل كانت لديه لغة عربية سليمة، ومن يراجع فيديو على اليوتيوب كان يتدرب فيه الفنان محمد العربي مع والده عبد البديع العربي بحضور يوسف وهبي، يجد أن محمد العربي كان يقع في بعض الأخطاء اللغوية الدقيقة، التي لا يدركها إلا القليل ممن لديه ثقافة لغوية عظيمة، وكان ينبهه إليها يوسف وهبي، وفي آخر خطأ قال له: قل كذا يا أخي، لا تجعل طه حسين بك يغضب منا.

بل كان الفنان الذي لا يطلب لعمل عربي فصيح أو ديني، يعلن استياءه من المنتجين لذلك، وهو ما أعلنه الفنان كمال الشناوي في حوار له، عندما سئل عن سر غيابه عن الأعمال الدينية، فقال: هذا ليس عيبي، لكنه عيب المنتجين، لم يطلبني أحد لذلك، رغم أن لغتي العربية الفصحى سديدة وقوية، ولعلهم ظنوا أن هذا اللون لا يصلح معي، وهو نفس ما قام به الفنان توفيق الدقن من عتاب المخرج الراحل مصطفى العقاد، ولماذا لم يطلبه في فيلم الرسالة، فقال العقاد إن الدقن اشتهر بين الناس بأدوار الشر، فقال له الدقن مازحا: يعني كنت خائفا على سمعة الإسلام، أن أمثل دور مسلم، لماذا لم تعطني دور كافر، أم خشيت على سمعة الكفار أيضا؟!

حق الشعب في فن يعبر عنه

أما الجيل الفني الحالي للأسف، فلم يقم بأداء دور باللغة العربية إلا من باب السخرية، أو القالب الفكاهي، بينما رأينا الدراما السورية سواء الاجتماعية أو الدينية تقتحم الميدان، وتتقدم فيه تقدما كبيرا، بعد أن كان المجال الفني مملوءا بعمالقة تعلم منهم العالم العربي جميعا، سواء على مستوى التمثيل بالعامية المصرية، أو اللغة العربية الفصحى، وإن لم تخل من ملاحظات.

ليس الحديث عن غياب الأعمال الفنية الدينية عن شهر رمضان وغيره، استدعاء للماضي، أو تحسرا عليه، بل للحديث عن حق الشعب الفني في أعمال تمثله في مناسباته الدينية، فهذه الوزارات والشركات المهيمنة على الإنتاج ليست ملكية خاصة، بل هي ملك له، وله كامل الحق في أن تكون له حصته من الأعمال التي تنتج من ضرائبه وماله، بما يعبر عن دين الدولة الرسمي ولغتها الرسمية، وليس بما يتم الآن بتقديم فن لا يعبر إلا عن شريحة محدودة من المجتمع، ولا يعبر عن قضاياها الحقيقية للأسف.

المصدر : الجزيرة مباشر