أصحاب الضمائر ينتحرون والقتلة يجنون الثمار!

رُفعت صورة الطيار الأمريكي خلال مسيرة مناصرة لفلسطين في كوالالمبور (غيتي)

تحول آرون بوشنيل الطيار بالجيش الأمريكي، بعد انتحاره أمام مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن، الأحد الماضي، إلى أيقونة بين شباب العرب وكثير من شعوب العالم.

أثار مشهد الانتحار الفظيع لشاب لم يتجاوز 25 عاما الروع في قلوب المشاهدين، الذين تابعوا احتراقه على الهواء مباشرة عبر موقع ” تويتش”. تسمرت عيون المتابعين، وهم يرون فتى مدينة سان أنطونيو بولاية تكساس، يقول على الملأ “لن أكون متواطئا في الإبادة الجماعية بعد الآن، سأقوم بالحد الأدنى الذي يجب أن يرفع المعاناة عن الفلسطينيين على يد الاحتلال”، ثم وضع جهاز البث المباشر على الأرض، وغمر نفسه بالبنزين، لتندلع النار في جسده وهو يصرخ ” فلسطين حرة.. فلسطين حرة”.

الانتحار داخل المجتمع الأمريكي من السلوكيات النادرة، وإن وُجد فترجع أسبابه إلى مشكلات مالية أو صحية وعائلية، وهي من أقل النسب بين الدول المتقدمة، أما إنهاء حياة خاصة بهذا الشكل المروع من أجل قضية شعب آخر، فهي من الأمور غير المتوقعة إطلاقا.

يقتل الناس أنفسهم عندما يشعرون بالعجز وعدم القدرة على دفع الأذى عن أنفسهم أو أحبائهم، فرأينا في مجتمعاتنا المسلمة شباب مصر ينتحر داخل المعتقلات خلال العشرية الماضية، احتجاجا على التعذيب والحكم عليها بالسجن لأسباب واهية أو معدومة، ولحق بهم قضاة متهمون في قضايا فساد، فقتلوا أنفسهم خوفا من الفضائح. اندلعت الثورة التونسية في 14 يناير/كانون الثاني 2011، عقب إشعال الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه احتجاجا على صفعة من امرأة مسؤولة عن النظام بشوارع مدينته.

شاهدنا مئات ينتحرون في الصين هربا من الملاحقة الأمنية وأثناء فرض القيود الأمنية المشددة على المواطنين داخل بيوتهم وحرمانهم من العمل والحركة لمدة عامين، فمنهم من قفز من أعلى العمارات، أو ألقى بنفسه تحت عربات القطار، خوفا من الإصابة أو فقدانه لوظيفته وأمواله.

عار الساسة وإعلام مزيف

عندما اختار آرون بوشنيل أن يحرق نفسه في قلب عاصمة الدول الراعية للديمقراطية في كوكبنا، أظهر حجم المعاناة التي يعيشها شعب منقسم على ذاته، تقوده حكومات متحالفة مع لوبي صهيوني وإعلام زائف يرى أن الحقيقة مجرد وجهات نظر! اكتفى البيت الأبيض بنعي الضابط على لسان وزير الدفاع، متجاهلا السبب الذي دفعه إلى الانتحار، هربا من العار الذي لطخ وجه المسؤولين والساسة والداعمين لإسرائيل.

توقفت وسائل الإعلام عند الحادث يوم الانتحار والوفاة في اليوم التالي، وبعضها لاحق فيديو الاحتجاج المصور ليمنع نشره، إلا أن المشهد المفزع جعل الجمهور وبعض السياسيين والكتاب يتساءلون: كيف يقع الاحتجاج السياسي بهذه الطريقة في دول ديمقراطية من ضابط بالجيش الأمريكي، مطالبا بحرية شعب آخر، لمجرد أن النخبة الحاكمة تضعه بقائمة الأعداء؟!

لجأت مجلة “تايم” إلى فن الاحتيال، لتتناول الموضوع من منظور تاريخي، عارضة قصصا مطولة حول تاريخ الاحتجاج السياسي والتضحية بالنفس، واصفة عمل “بوشنيل” بأنه مثير للجدل، جرى استخدامه كشكل متطرف من أشكال الاحتجاج ضد القادة السياسيين خلال الربيع العربي وحرب فيتنام، على غرار ممارسة الانتحار في طقوس هندوسية ومسيحية قديمة لأناس تعرضوا للاضطهاد بسبب دينهم.

اللافت أن المجلة استشهدت بموقف يُذكّر الجمهور بما ارتكبته القوات الأمريكية من جرائم خلال حرب فيتنام، بما دفع الراهب البوذي الفيتنامي “ثيش كوانغ” إلى إضرام النار في نفسه وسط مدينة سايغون عام 1963، احتجاجا على اضطهاد الحكومة الفيتنامية الجنوبية المدعومة أمريكيا. تُبيّن “تايم” أن الحريق ظل أكثر مظاهر الحرب قسوة وانتشارا، بما جعل العديد من الرهبان يحذون حذوه، في اختيار صادم لمواجهة الاحتجاج على الحكومة الأمريكية.

تقفز “تايم” على ما ارتكبه الأمريكيون من مجازر بشعة ضد الفيتناميين العزل، وحرقهم الغابات والبشر بالقنابل والنابالم، لتشير إلى ذبح راهب تبتي لنفسه احتجاجا على القمع الصيني للبوذيين، تسبب في إشعال 100 راهب النار في أنفسهم على مدى سنوات.

عدو المسلمين الأمريكيين

عالج تشارلز بلو، الكاتب الأول لعمود الرأي بجريدة نيويورك تايمز، الانتحار الاحتجاجي بشكل أكثر عمقا. استطلع “بلو” رأي الأقلية المسلمة حول ما سيفعلونه مع الرئيس بايدن خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة. فوجئ “بلو” بحالة الغليان والغضب التي ازدادت بين المسلمين، بعد أن ضحى الجندي الأمريكي بنفسه محترقا وهو يصرخ “فلسطين حرة”. يشعر المسلمون بخيانة بايدن وارتمائه في أحضان الصهاينة ودعمه المطلق لإسرائيل، بما جعلهم يتفقون على وضعه في خانة الأعداء، ويقبلون التعامل مع عدوهم “ترامب” مقابل رفض العيش تحت قيادة شخص يتظاهر بأنه صديق لهم.

ينقل “بلو” حالة الثأر التي جعلتهم يشكلون حركة “التخلي عن بايدن” السياسية، لدعوة الأمريكيين إلى إنهاء مسيرته بالعار، بجعله رئيسا لمدة واحدة، وملاحقته بعار الإبادة الجماعية التي يدعمها ضد الفلسطينيين العزل والجوعى في غزة.

الحيل القذرة

في تحليل عميق بمجلة “فورين أفيرز” الصادرة منذ يومين، للمفكر هال براندز أستاذ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، تتضح دوافع تحوّل النظرة الأمريكية تجاه جرائم الحرب، وتجاهل أصوات الاحتجاج ضد استمرار العدوان على الأبرياء، ولو جاءت على شاكلة الانتحار الذي قام به ضابط شاب ما زال في الخدمة العسكرية.

تحت عنوان “عصر عدم الأخلاق، هل يمكن لأمريكا أن تنقذ النظام الليبرالي من خلال الوسائل غير الليبرالية؟” يبرر الأستاذ بكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة توجّه “ارتكاب الأمريكيين لكمّ من الشر من أجل فعل الخير ومنع شر أعظم في عالم تحكمه أكثرية من النظم العدوانية”. يوضح المفكر الأمريكي سعي الرئيس بايدن لممارسة “الحيل القذرة” في منافسته مع الصين وروسيا، والعالم الثالث الذي يصفه بالتشنج بسبب عدم الاستقرار، ودعمه الأنظمة الاستبدادية المنبوذة في الدول العربية، مقابل تحقيق الاستقرار الإقليمي بالمنطقة القائم على التقارب بين الاستبداد العربي والحكومة الإسرائيلية، حتى لا تفقد الولايات المتحدة دورها كقوة عظمي.

يضع الساسة الأمريكيون معايير تتنازل عن الأخلاق باسم الواقعية، رافعين شعار “الأخلاق هي بوصلة في ثوب مرن قابل للاتساع”، بما يدفعهم إلى دعم الديكتاتوريين والفاشيين، ويتجاهلون أصحاب الضمائر الحية الذين ينتحرون احتجاجا على القتل في غزة وغيرها، بينما القتلة منهم يجنون الثمار.

المصدر : الجزيرة مباشر