مجازر غزة تسرع بالحظر الأمريكي لـ”تيك توك”

مكاتب تيك توك تظهر في كاليفورنيا بعد أن أقر الكونغرس الأمريكي مشروع قانون لسحب الاستثمارات من المالك الصيني (رويترز)

أقر مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة مشروع قانون يجبر صاحب تطبيق تيك توك (شو زي شيو) مدير شركة “بايت دانس” الصينية على بيع أصوله الموجودة داخل الولايات المتحدة خلال 180 يوما، وإلا سيُحظر التطبيق داخل أمريكا.

أحال النواب القرار إلى مجلس الشيوخ، الأربعاء الماضي، لتمريره على عجل، وتعهد الرئيس جون بايدن بالتوقيع عليه فور وصوله إلى البيت الأبيض.

يأتي الاتفاق النادر بين النواب وسط معارك سياسية طاحنة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول ميزانية الدولة، وسباق انتخابات رئاسية وبرلمانية فارقة، بدعم من تقارير صادرة عن لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ والمخابرات، يَعُدون التطبيق الأكثر تحميلا في العالم واستخداما داخل أمريكا، يمثل تهديدا للأمن القومي.

يسوق النواب أدلة على قدرة “تيك توك” على استخدام ملكية الصين له بالوصول إلى كم هائل من البيانات، يجمعها عن 170 مليون مستخدم يوميا للتطبيق للتعرف على أذواقهم ومواقعهم ومعلومات بهواتفهم والمتصلين بهم، وكلمات المرور لأنشطتهم المصرفية.

بيع تيك توك قسرا!

جاء مشروع الحظر عقب استدعاء شوي زي شيو أمام لجنة برلمانية، لمواجهته بمخاوف الأمريكيين من قدرة الحزب الشيوعي الصيني على اختراق البيانات الحساسة للأمريكيين، مشيرين إلى نيات الصين منذ عام 2015، عندما اخترقت مكتب إدارة شؤون الموظفين بالبيت الأبيض، أعقبه توظيف تيك توك لخوارزمياته بما يجعله قادرا على تغيير اتجاهات الجمهور وتحريك المجموعات في اتجاه خطر على الأمن القومي.

يلاحق الساسة تيك توك منذ 2018، بتعليمات من الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي وجد به تجمعات معارضة قوية لسياساته، وتصاعد الأمر في عهد بايدن، الذي دفع الشركة المالكة إلى التعهد بفصل عملياتها داخل الولايات المتحدة عن العالم، حتى لا تنقل أي معلومات عن المستخدمين الأمريكيين للتطبيق خارج البلاد، وهو ما شجع على ملاحقة تيك توك في فرنسا وبريطانيا وأستراليا، التي ترى ضرورة بيعه قسرا لشركة غربية.

اللافت أن ترمب تراجع عن حملة الكراهية ضد تيك توك، فطلب -بعد القرار- التريث في حظر التطبيق، قائلا “سيصاب الشباب بالجنون إذا اختفى تيك توك”. تحوُّل ترمب لم يأت من فراغ، فقد شهدت الشوارع الأمريكية مظاهرات عدة، تطالب بتراجع الساسة عن عدائهم القوي لتطبيق أصبح بالنسبة إليهم “لقمة عيش”، يوظفونه في الترويج لخبراتهم ومنتجاتهم، والترويح عن أنفسهم بعيدا عن وسائل إعلام وتطبيقات مستقطبة لا تراعي مصالح أغلبية المواطنين.

يفرض القانون سحب الاستثمارات الصينية من تيك توك، وتحويله إلى كيان غربي المنشأ والهوية، رغم أنه يعمل على طريقة “ميتا” صاحبة فيسبوك المملوكة للملياردير اليهودي مارك زوكربيرغ، وتُبث فيديوهاته المصغرة بطريقة “يوتيوب” و”إكس”. منح القرار الصين فرصة للتباكي على حرية التعبير التي أصبحت ملاحقة في الولايات المتحدة، المتباهية بأنها حامية الحريات، وأعطاها خنجرا للطعن في عقيدة حرية السوق والعولمة.

حرب “الصينوفوبيا”

رأى المتحدث باسم الخارجية الصينية (وانغ وي بنغ) مشروع القانون “عملا من أعمال التنمر ورهاب الصين”، يعكس لجوء واشنطن إلى الهيمنة “عندما لا يتمكن المرء من النجاح في المنافسة العادلة، فيعطل الأعمال التجارية، ويقوض ثقة المستثمرين في بيئة الاستثمار، ويخرب النظام الاقتصادي والتجاري الطبيعي في العالم”.

تعزز الصين الدفاع عن شركة “بايت دانس” التي أصبحت خلال أعوام من أكبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويُقدّر خبراء قيمتها السوقية بنحو 200 مليار دولار، إذا رُفع عنها الحظر، وبيعت في البورصة، ولكنها غير قلقة على “تيك توك” كوسيلة للتعبير ونشر المعلومات، فالصين لا تعتمد على تيك توك إلا لأهميته كمنصة لمناكفة واشنطن، والترويج لبضائعها التي تواجه تراجعا في الطلب والتضييق عليها بالغرب.

لدى الصين تطبيقات كثيرة تعمل داخلها بقوة، منها علي بابا وبايدو وويبو ووي شات، تخدم 1.4 مليار نسمة، ويتابعها مئات الملايين في الخارج. تهيمن الحكومة على التطبيقات بقبضة قانون الأمن القومي -يجري تحديثه وتشديده حاليا- الذي يمنح الحزب الشيوعي القدرة على الوصول إلى كل المعلومات عن مستخدمي شبكات الإنترنت والتطبيقات، وتخزين صور منها لدى أجهزة الأمن القومي، لاستخدامها عند الضرورة.

تحظر الحكومة الصينية فيسبوك وإكس وغوغل وإنستغرام وواتساب ويوتيوب منذ سنوات، وأي تطبيقات غير مرغوب في وجودها، رغم اعتمادها في الدعاية عن نفسها بالخارج على المنصات الأمريكية. استعانت الحكومة بشركات آي بي إم ومايكروسوفت في بناء “جدار الصين العظيم” كحزام ناري، تكلف بناؤه عشرات المليارات من الدولارات لعزل الصين عن خارجها منذ عقدين. لم تتوان الشركات الأمريكية مثل غوغل أو هوت ميل وياهو عن تقديم بيانات المستخدمين للحزب الشيوعي، عند ملاحقته معارضين سياسيين. اعترفت أمازون مؤخرا بموافقتها على شروط الأمن القومي ليُسمح لها بالعمل داخل الصين. يسعى مارك زوكربيرغ لإدخال “ميتا” للعمل من بيجين بأي وسيلة، لتعويض تراجع دخله منذ عامين.

الرواية المزيفة للتاريخ

كان طبيعيا في دولة شمولية، تعزز سلطتها بتقييد حرية التعبير ومنع وصول الرأي الآخر إلى الشارع، أن تهتم بحظر تيك توك، خشية تصاعد “الحرب الباردة الجديدة” التي أصبحت معلنة بين الصين والغرب بقيادة واشنطن. يبدو الحظر بالنسبة للولايات المتحدة مختلفا كليا، إذ كشف عضو مجلس النواب مايك غالاغر Mike Gallagher أحد مقدمي مشروع قرار حظر تيك توك، أثناء المناقشات المحدودة التي أُجريت بشأنه، بقوله “الخوارزميات التي دفعها تيك توك على المستخدمين الأمريكيين، عززت المحتوى المعادي لإسرائيل والمؤيد لحماس بعد هجوم 7 أكتوبر”.

كلمات النائب أفصحت عن السبب الجوهري الذي دفع المتخاصمين الجمهوريين والديمقراطيين إلى الاتحاد فجأة للإسراع بحظر تيك توك، الذي ينشر مقاطع كثيرة عن المجازر التي يرتكبها الصهاينة في غزة، ورفضهم ما قاله مدير تيك توك بأن شركته تضع تدابير صارمة لمنع توظيف التطبيق لصالح أحد أطراف الصراع في غزة أو داخل الولايات المتحدة، بل يطلبون في الجلسة نفسها تمرير تمويل تكميلي لدعم إسرائيل بالمال والسلاح في عدوانها على غزة.

أسقطت الحرب الوحشية على أهالي غزة القناع الغربي المغطى برداء إنساني وشعارات ليبرالية لا يحترمها، ويدق ناقوس الخطر أمام من حجبت صفحاته ومواقعه على وسائل التواصل، لتعمية الرأي العام عن عدوان مستمر للشهر السادس. تستخدم الصين التكنولوجيا لبسط قبضة النظام، فتحجب حسابات ومواقع وتلاحق معارضين، بينما توظفها الولايات المتحدة لإقصاء الرافضين للعدوان وفرض المجاعة على الأطفال والنساء، وتقديم روايات أخرى كاذبة، تتحول مع الأيام إلى تاريخ مزيف للشعوب.

المصدر : الجزيرة مباشر