أمير الشعراء أحمد شوقي في المنفى: عندما ينطلق الخيال الأدبي!

أمير الشعراء أحمد شوقي

هناك الكثير من الذين يعيشون تجربة النفي والحرمان من العودة إلى الوطن، ومعظمهم من الذين كانوا يتمتعون بمكانة أدبية وعلمية وسياسية في أوطانهم؛ لكنهم اضطروا إلى الهجرة بسبب الاضطهاد والقهر.

والنفي عقوبة قاسية تعني أن يترك الإنسان بيته وممتلكاته وثروته، ويواجه الفقر بعد الغني، والتجاهل بعد الشهرة، والغربة بعد أن كان يحيط به الأهل والصحب والمحبون، ومعظم المنفيين لا يعبرون عن مشاعرهم، ولا يقدمون وصفا لتجاربهم. لكن هل يمكن أن يجد هؤلاء من يصف آلامهم وأحزانهم أفضل من أمير الشعراء أحمد شوقي؟!

من القصر إلى المنفى!

كان شوقي يعيش حياة الترف والرخاء والثراء في قصر الخديو عباس حلمي، وكان يحتل وظيفة مهمة في القصر رئيسًا لديوان الترجمة، ويتمتع بنفوذ ومكانة أدبية واجتماعية، لكن الحرب العالمية الأولى اشتعلت نيرانها، فأعلن الإنجليز الحماية على مصر، وعزل الخديو عباس، وتعيين السلطان حسين كامل الذي كان قد هجاه شوقي لأنه شارك في وداع اللورد كرومر.

لذلك اتفق الإنجليز مع السلطان الجديد على نفي أحمد شوقي إلى مالطا، لكن تم تعديل مكان النفي إلى الأندلس.

عندما صعد شوقي ظهر السفينة التي أبحرت نحو المنفى خاطبها قائلا: “إن للنفي لروعة، وإن للنأي للوعة، وقد جرت أحكام القضاء؛ بأن نعبر هذا الماء، حين الشر مضطرم، واليأس محتدم، والعدو منتقم، والخصم محتكم، وحين الشامت جذلان مبتسم، يهزأ بالدمع وإن لم ينسجم، نفانا حكام عجم، أعوان العدوان والظلم، خلفناهم يفرحون بذهب اللجم، ويمرحون في أرسان يسمونها الحكم، ضربونا بسيف لم يطبعوه، ولم يملكوا أن يرفعوه أو يضعوه، سامحهم في حقوق الأفراد، وسامحوه في حقوق البلاد، وما ذنب السيف إن لم يستح الجلاد”.

هذا النص يوضح شعوره بمرارة الفراق، خاصة أن الذي اتخذ قرار النفي أعوان العدوان والظلم (السلطان حسين كامل) الذي فرط في حقوق بلاده، فسمح له الاحتلال الإنجليزي باضطهاد الأفراد، وهو يمرح والرسن في رقبته، ويسمي هذا الرسن حكما.

مخاطبة السفن المتجهة نحو الوطن!

ألقت السفينة الشاعر على مشارف برشلونة التي منعه الاحتلال الإنجليزي من مغادرتها، فأصبح ينظر من شرفة مسكنه المتواضع كل يوم نحو البحر ليشاهد السفن المتجهة إلى مصر ويخاطبها متمنيا أن تحمله إلى الوطن قائلا:

أحرام على بلابله الدو * ح حلال للطير من كل جنس

كل دار أحق بالأهل إلا * في خبيث من المذاهب رجس

ويشبه شوقي النفي بعذاب جهنم إذ يقول:

لولا عوادي النفي أو عقباته * والنفي حال من عذاب جهنم

وظل يردد هذا التشبيه، حتى بعد أن انتهت تجربة النفي، وعاد إلى أرض الوطن؛ فبالرغم من أنه يشبه الأندلس بجنات عدن، فإنها لم تنسِه الوطن؛ إذ يقول:

نزلت رُبَى الدنيا وجنات عدنها * فما وجدت نفسي لأنهارها طعما

فما برحت من خاطري مصر ساعة * ولا أنت في ذي الدار زايلت لي هما

لم يستطع شوقي أن ينسى الوطن، ولم تفلح كل المغريات في الغربة وحوادث الأيام أن تجعل قلبه يسلو:

وسلا مصر هل سلا القلب عنها * أو أسا جرحه الزمان المؤسي

ليصبح شاعر الإسلام

هل يمكن أن يكون للنفي نتائج إيجابية في حياة الإنسان والوطن كله؟!! بالرغم من كل آلام النفي وأحزانه توضح تجربة أحمد شوقي أن النفي يمكن أن يطلق الخيال، وينتج الكثير من الأفكار الجديدة التي يمكن أن تسهم في بناء مستقبل الأمة؛ فشوقي فقد وظيفته المهمة في القصر، وضاعت ثروته، فعاش حياة المعاناة التي جعلته يقترب من شعبه، ويعبر عن آلامه وأحزانه.

في المنفى عرف شوقي الأحزان بسبب البعد عن الوطن ليصبح شاعر الوطنية الذي تمكن من التعبير عن أجمل مشاعر حب الوطن، كما درس شوقي في منفاه الأدب العربي وتاريخ الإسلام، ليدافع عن حق الأمة العربية والإسلامية في التحرر والاستقلال.

بعد المنفى أصبح شوقي حرا من قيود الوظيفة ليتحول بيته إلى ملتقى للأدباء والمفكرين، وليبايعه الشعراء أميرًا لهم.

انتهت سنوات المنفى، وعاد شوقي ليستقبله شعب مصر الذي اعتبره من أهم أبطاله، وليحمله المحبون على أعناقهم، فيقول:

ويا وطني لقيتك بعد يأس * كأني قد لقيت بك الشبابا

وفتحت عودته إلى الوطن مجالا جديدا لشعر يعبر عن الوطن، وهموم شعبه، وآلامهم وآمالهم، وتجلّى الجمال في شعره عندما ارتبط بكفاح شعب يطلب الحرية والاستقلال.

فترة المنفى منحت أحمد شوقي الحرية في التفكير والتعبير، فانطلق ليحلّق في آفاق جديدة، من أهمها الفخر بتاريخ الإسلام وحضارته، والحزن على ضياع مجده؛ لتغنّي الأمة كلها قصائده.

يقول شوقي ضيف: “إذا كان النفي قد ملأ نفس الشاعر حزنا وألما وحسرة على ما فقده من عزّ وجاه، فإنه حقق للشعر ثراء وصدقا وعمقا”.

وعاد شوقي إلى وطنه وشعبه، بعد أن قطع علاقته بالحاكم وقصره وحاشيته، فلم يعد يمدح إلا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم. كما سيعود المنفيون يوما ليفتحوا أمام الشعوب آفاقا جديدة لتحقيق الحرية والديمقراطية والاستقلال الشامل والتقدم.

المصدر : الجزيرة مباشر