شيوعيون مؤمنون بالله!!

يوسف الصديق أحد الضباط الأحرار في الثورة المصرية عام 1952

هناك شائعات أخذت طابع المعلومة التاريخية الثابتة، ولكن عند التدقيق فيها نجدها وهمًا، أو شائعة متعمدة قُصد بها التزييف، أو وصف مرحلة ما بعيدا عن حقيقتها، ومن هذه النماذج: ما انتشر في القرن العشرين في مصر، من شهرة أسماء قدمت للفكر والسياسة والحياة العامة، على أن هؤلاء أشخاص قد اعتنقوا الشيوعية، وعاشوا وماتوا معتنقين لها، أو لم يغيروا خطهم الشيوعي، وعند التدقيق التاريخي والبحثي، نجد أن كثيرا من هؤلاء انتمى للشيوعية متبنيا موقفها الاقتصادي، وتلك كانت موضة فكرية ذائعة، فتراه يقول لك: أنا مسلم شيوعي، أي أنه مسلم اعتقادا ودينا، لكنه أخذ من الشيوعية الجانب الاقتصادي، وليس معتنقا لفكرها الذي ينكر وجود الخالق.

هناك أشخاص عرفوا في حياتنا الثقافية والسياسية بشيوعيتهم، ولم يكلف أحدنا نفسه عناء البحث وراء هذا الوصف، مثل: يوسف صديق، أحد الضباط الأحرار، الذي بدأ ثورة يوليو مبكرا قبل موعدها بساعة، ولولاه لاكتشفت وقتها، ومنهم: الأستاذ خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع السابق، والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، وأسماء أخرى غيرهم، لا أريد الحصر، لكني أردت سوق نماذج مشهورة بذلك، وعند التدقيق الصحيح سنجد أنهم أشخاص لم يغادروا الإيمان بالله تعالى.

يوسف صديق الشيوعي المؤمن

لعل أشهر شخصية سياسية في عصرنا الحديث، أطلق عليها وصف الشيوعي، ولازمها اللقب: يوسف صديق، وقد نشرت مذكراته منذ سنوات طويلة، وكتب فيها تفاصيل دوره ليلة ثورة يوليو، ونشرت تحت عنوان: ليلة ثورة 23 يوليو أوراق يوسف صديق، وقد كتبها بخط يده، وسلمتها ابنته للنشر، وكتب مقدمتها الدكتور عبد العظيم رمضان، ونشرتها الهيئة العامة المصرية للكتاب، وجمعت المذكرات ما كتبه يوسف صديق، وما كتبه أصدقاؤه عن صديق، وعن علاقاته بالشيوعية والشيوعيين، وموقفه من الدين الإسلامي.

القارئ لمذكرات يوسف صديق يجده دائم الذكر لله، فمما ورد في مقدمة مذكراته “لئن كانت ثورة 23 يولية سنة 1952 تعتبر بمثابة الشرارة الأولى التي اندلعت في حركة (تحرير الشعوب) بعد الحرب العالمية الثانية، فإنني أسجد لله شكرا على أن هيأ لي مع ضعف صحتي وقوتي أن أكون الشرارة الأولى التي اندلعت في هذه الثورة الخالدة.

وإن الله القوي العزيز الواحد القادر القهار يحب أن يثبت وجوده وقمته وقدرته لعباده، ويحب أن يريهم أنه وحده القادر على كل شيء، فهو لا يقهر الجبابرة دائما إلا بأضعف أسبابه، فحين اختار سبحانه وتعالى محمدا عليه الصلاة والسلام ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور ويسحق عروش الأكاسرة والقياصرة، ويدوس تيجانهم تحت أقدام الشعوب المتحررة هيأ لذلك الدور الكبير الخطير رجلا جمع فيه بين اليتم والأمية والفقر وكلها أسباب ضعف، غير أن قوة الحق وحده التي كانت في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي التي جعلت الإسلام يقوم وينتشر على الأرض في سرعة النور”.

ثم يقول عن ليلة الثورة، التي أسماها “ليلة عمري”: “ولما كانت طبيعة الأمر تقول بأن الخطأ يوصل إلى الفشل، غير أن حوادث الليلة بينت بوضوح أن الخطأ لم يوصلنا إلى النجاح فحسب، بل إنه كان (الحل الوحيد) الذي بني عليه النجاح.

وهكذا كان الله وحده هو الذي دبر وقدر في هذه الليلة التي لا أغالي حين أسميها “ليلة عمري”، وكيف لا تكون ليلة عمري ليلة قضيتها مع الله، وكنت في طاعته ورضاه؟”.

وفي كل المذكرات التي كتبها، لا تخلو الفقرات من نسبة الفضل في كل حياته لله تعالى، بل كانت بعض العناوين الجانبية دالة على حضور التدين لديه، فنجد عنده حديثه عن ليلة ثورة يوليو يجعل عنوانا جانبيا عن خطئه عن الموعد المبكر الذي تحرك فيه للثورة هذا العنوان: “الله يتجلى”، ثم يضع عنوانا آخر بعده، بعنوان: “السماء تمطر جنودا”، فضلا عن السطور الطويلة التي يربط دائما الأحداث فيها بتوفيق الله عز وجل له.

لماذا ترك الشيوعية؟

لم يبق يوسف صديق كثيرا في الشيوعية، فسرعان ما تركها، قبل يوليو 1952 بعام كامل، وقال عن أسباب تركها: كثرة انقسامهم إلى عدة فصائل واتجاهات، وكذلك ما كان يعبر به بعضهم من عبارات صادمة ضد الدين الإسلامي، مما يفقدهم تعاطف الناس، رغم أنه لا يرى أن جوهر الشيوعية بالمعنى الاشتراكي يتعارض مع صحيح الدين.

فقد قال صديق عمره الأستاذ محمود توفيق “إن يوسف وإن كان شديد التعاطف مع الحركة الشيوعية، إلا أنه ظل دائما متحفظا على موقف الشيوعية من الدين، ومتمسكا بإيمانه الديني، ومؤمنا بأن الدين الإسلامي بالذات، له مضمون ثوري وتقدمي وديمقراطي أكيد، وما ذكره في مذكراته في هذا الشأن هو تقرير صادق لحقيقة موقفه السياسي والفكري”.

لماذا ترك الإخوان المسلمين؟

وقد كان دخوله الشيوعية في إطار ما أسماه “البحث عن الحقيقة”، فدخل جماعة الإخوان المسلمين وخرج منها، وبين أيضا لماذا غادر الإخوان سريعا أيضا، فقد ضمه إلى الإخوان الصاغ محمود لبيب الذي أسس تنظيم الضباط الأحرار، وانضم كما أوضح يوسف صديق إليهم مدة شهور وتركهم، وقال إن أبرز الأسباب التي جعلته يتركهم مناداتهم بأن دستورهم هو القرآن.

وقال “ومع احترامي الشديد بل وتقديسي للقرآن غير أن إطلاق مثل هذا الشعار مطلقا كان لا يعني شيئا مفهوما، فليس من المعقول أن نضع القرآن أي المصحف أمامنا لنحتكم إليه في كل قضية، وبمفهومي للأمور كنت أتصور أن يكون الإخوان قد استنبطوا من كتاب الله دستورا عصريا مكتوبا بلغة الدساتير المعروفة، وكانت لا تنقصهم القدرة على ذلك”.

وما نجده عند يوسف صديق هو نفسه ما يقال عن آخرين، تركوا الإخوان وذهبوا إلى الشيوعية لجانبها الاقتصادي، من هؤلاء: خالد محيي الدين، وأحمد مظهر، وأحمد رفعت، وكلهم يجمع بينهم أنهم ضباط في الجيش المصري، وقد تركوا الإخوان لافتقادهم لبرنامج للحكم أو الإصلاح كما تصوروا.

المهم في موضوعنا هو أن كثيرا ممن اشتهر عنهم أنهم اعتنقوا الشيوعية، لم يكن اعتناقهم لها بالمعنى الاعتقادي، بل بالمعنى الاقتصادي، في كثير من الحالات، بل كان بعضهم يعلن شوقه لأمور دينية، مثل: الأستاذ محمود أمين العالم، الذي كان يقول: ابحثوا لي عن حل لما ينتابني من شعور بالمحبة، والبكاء الشديد، كلما سمعت أغنية: لأجل النبي، يغنيها الفنان محمد الكحلاو. وكذلك خالد محيي الدين، فقد ذهب لأداء فريضة الحج.

الخيط المشترك الذي وجدته عند جل هؤلاء الذين نسبوا إلى الشيوعية، رغم أنهم لم يغادروا إيمانهم بالله، هو نظرتهم إلى بعض الصحابة، وتحديدا: عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكلهم يشتركون في انتقاده، لموقفه من الثروة والسلطة، حسب ما قرؤوا من أحداث، ربما لو دققوا فيها النظر التاريخي لاختلفت وجهات نظرهم، ولا أنسى قريبا لي كلما دار النقاش في مثل هذه الموضوعات، يقول لي “معذرة فنحن واخدين على خاطرنا شوية من عثمان بن عفان”، يقولها بلغة مخففة.

ربما أسهم في عدم التدقيق في نسبة بعض المشاهير إلى الشيوعية: معاملة بعض المتدينين، لكل موقف مخالف ولو في مسألة الموقف من سياسة بعض الصحابة، على أنه معاداة للدين، وإيمان بالشيوعية، أو المذاهب الأخرى، ولو راجع كل منا بعض الأسماء التي أُطلق عليها وصف توجه معين، لتبين لنا أنه ربما كان مجرد التقاء في نقاط، وخلاف في نقاط أخرى، أو كانت نسبة سابقة، ومرحلة في حياته وانتهت.

المصدر : الجزيرة مباشر