صحوة الأديان في دولة ملحدة!

مسلمون صينيون في أحد المساجد (غيتي)

تُمثل الأديان أهمية كبرى لدي أغلبية الشعوب، رغم محاولة الأنظمة إخفاء قوتها.

أظهر العدوان الإسرائيلي على غزة أن الدعم الأمريكي-الغربي للعدوان الوحشي، يرتكز على أسس دينية، لشرعنة احتلال فلسطين. يستدعي الحشد العسكري الغربي الإسلاموفوبيا، وإحياء مشاعر الكراهية التي أطلقها الإقطاعيون والكنيسة إبان الحروب الصليبية، في مخالفة لتوجهات مواطنيه ممن يرفضون الغزو الصهيوني لغزة، لتعارضه مع مبادئهم الدينية والإنسانية.

تظهر هذه المفارقات الواسعة لدى المجتمع الأمريكي الذي يفرض نظاما علمانيا، بينما يتصرف قادته وأكثر سكانه في حياتهم اليومية على أسس دينية.

على النقيض من ذلك، تتخذ الحكومات الغربية من العلمانية منهجا نحو الحداثة والليبرالية، وعندما تصطدم مع الأفكار والأديان الأخرى، البعيدة عن عمقها القومي، لا تتورع عن محاربة أصحاب الأديان الأخرى، وإن كانوا من بين أبنائهم أو المتجنسين بجنسيتهم.

لم تبتعد الدول العربية والإسلامية عن هذا النهج، فلا نجد من بينهم نظاما يحدد هوية الدولة على أساسي ديني إلا دولة باكستان الإسلامية، وجمهورية إيران الإسلامية، ولكل منهما سبب مختلف لإعلاء هذا التعريف، مع اعترافهم بحقوق أصحاب الأديان الأخرى في الوطن والمواطنة.

فلا توجد دول في الكوكب قائمة على أساس ديني صريح سوى إيران وباكستان وإسرائيل. وضعت الأخيرة يهودية الدولة شرطا لمنح جنسيتها، رغم أن 33% فقط من الإسرائيليين يمارسون الطقوس اليهودية، وفقا لدراسات ميدانية.

المسلمون والثورة الحمراء

لا تعترف الصين الشعبية رسميا بالأديان. وفقا للدستور هي دولة ملحدة، ولا يُسمح لأعضاء الحزب الشيوعي بالإيمان بأي دين، إذ تنظر الماركسية إلى الدين بأنه ظاهرة تاريخية عقيمة مؤقتة ستختفي مع تقدم الشعوب. رأى الزعيم ماو تسي تونغ الدين مرتبطا بالخرافات، ولصيقا بالنظام الإقطاعي الدي يدعم البوذيين والمسيحيين بسبب علاقاتهم المباشرة بالاستعمار الغربي والفاتيكان.

أصبح الدين هدفا لحملة الشيوعيين للقضاء على “أعداء الشعب الأربعة: الأشياء القديمة، والأفكار القديمة، والعادات القديمة، والأديان”. هاجم الحرس الأحمر المعابد والأضرحة والكنائس والمساجد، ودمروا بعضها بالديناميت مع إغلاق مقارها أو مصادرتها.

نجا المسلمون الهان الذين تحالفوا مع “ماو” أثناء الثورة الحمراء من المجازر، وعدّلت السلطات نصوص دستور “ماو”، لينص عام 1982 على أن المواطنين العاديين يتمتعون بحرية المعتقدات الدينية، فخرج المؤمنون بعقائدهم إلى الوجود، بينما الغالبية ظلت تمارس شعائرها سرا.

كسر كثيرون الحواجز، عندما وضعت الدولة وثيقة للحرية الدينية، سمحت في نص مطاط بالأنشطة “العادية”، منها الصلاة في الكنائس والمساجد والمعابد الرسمية التي تحددها الدولة دون غيرها، مع “حظر التعليم الديني لمن هم أقل من 18 عاما، وتحريمه على أعضاء الحزب الحاكم، مع تعزير التعليم الملحد بين المواطنين”.

في حراسة الشيوعية

انتعش النشاط الديني عقب التزام الدولة بسياسة الانفتاح والإصلاح في ثمانينيات القرن الماضي، مع تركيز الحكومة على التنمية الاقتصادية، وتوظيف الدين لخدمة الاقتصاد وتقوية علاقات الصين بالغرب. أعادت الدولة إصلاح أو بناء بعض المساجد والكنائس والمعابد التي صودرت خلال الثورة الثقافية على نفقتها، وحولتها إلى مزارات سياحية.

لم تَخلُ الرحلات العديدة التي نظمتها الدولة والجهات التابعة لها من توجيه الوفود الأجنبية إلى زيارة معبد “بوذا” العملاق فوق جبال منتجع هانغيتشو الخلاب. حظي المسلمون بزيارات منتظمة لمساجد “نيوجيه” في بيجين والمنتشرة بمدنها الكبرى، تيانجين وقانسو وشيآن وشغنهاي، إضافة إلى لقاءات مع الأئمة ومسؤولي الجمعية الإسلامية المنظمة لشؤون المسلمين في البلاد.

عزز البوذيون وجودهم الاقتصادي بإنشاء مراكز ثقافية خاصة بتراثهم التبتي ومطاعم خاصة بأكلاتهم المقدسة، وانتشرت الأنشطة الرعوية للكنائس خارج النظام القانوني، تحت بصر الحزب الشيوعي.

في ظل مناخ متسامح نسبيا، تحوّل 60 مليون من هواة لعبة “الكونغ فو” إلى جماعة دينية “فالون جونغ” تمارس التأمل على الطريقة البوذية والطاوية، انتشر أتباعها لأداء ألعابهم في الميادين العامة، إلى أن وقعت الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية عام 1989، التي أدت إلى حظر نشاطها، وتصنيفها “جماعة إرهابية”. رغم تغيُّر سياسة الدولة مع الديانات الخمس المعترَف بها وهي الإسلام والكاثوليكية والبروتستانتية والطاوية والبوذية، بإصدار وثيقة “اللوائح الخاصة بالشؤون الدينية” عام 2004، التي تمنح السلطة الإدارية حق إغلاق المؤسسات الدينية، فإنها لم تطبقها بقسوة إلا عام 2015، عندما دعا الرئيس شي جين بينغ إلى “إضفاء الطابع الصيني على الأديان”. أنشأ شي إدارة للشؤون الدينية لإحكام قبضة الحزب على جميع الأديان عام 2018.

عودة الكونفوشيوسية

قدَّم شي مشروعا سياسيا بديلا للأديان، بكتاب “الإدارة والحكم” الذي فرض تدريسه على طلاب المدارس والجامعات، والجنود والشعب عبر وسائل الإعلام والمؤسسات الحزبية والعامة. يعتمد المشروع على إقران الماركسية بالكونفوشيوسية التي حاربها من قبل، واعتباره “الماركسية هي روح الصين وثقافتها التقليدية، والكونفوشيوسية هي الجذر”.

يروّج قادة الحزب لأفكار الرئيس، وإقناع الشعب بأن المستقبل المزدهر يتطلب توافقا كاملا مع الماضي، باتباع المبادئ الكونفوشيوسية، لأنها تعتمد على التسلسل الهرمي والسمع والطاعة لدى الأتباع، بينما الأفكار العميقة للكونفوشيوسية المتجذرة في الريف والمدن لا تتفق بحال مع الماركسية، إذ يَعُدها الشعب غريبة عنه وعن تراثه وعقائده.

أدى التراجع الاقتصادي الذي تمر به الصين إلى عودة واسعة للتدين، خاصة بين الشباب الذين يبحثون عن ذواتهم في مواجهة النوائب، وعن مصدر إلهام يخفف عنهم معاناتهم اليومية وضغوط العمل ومتطلبات الحياة التي تشهد ارتفاعا كبيرا في النفقات، وخسائر في الأموال.

هروب من القبضة الحديدية

العودة إلى التدين مخالفة لما يبذله الحزب الشيوعي من ملاحقة أتباع الأديان، وكل ما يخالف النظام. يشير إحصاء حكومي نشره مركز “بيو” الأمريكي للأبحاث، في أغسطس/آب 2023، إلى وجود 34 ألف معبد بوذي و9 آلاف موقع طاوي، بينما يُقدّر الخبراء المعابد بخمسة أضعاف تلك الإحصاءات.

يُظهر “بيو” للأبحاث أن الصينيين غارقون في ممارسة الطقوس الدينية بحياتهم اليومية، لكنَّ واحدا فقط من كل 10 أشخاص يُظهر انتماءه إلى دين ما. يمارس الصينيون الأديان على أنها طقوس وعادات شعبية، لأن مصطلح دين “ZongJiao” لم يعرفوه إلا في القرن الماضي، بما يمكّنهم من الالتفاف على القيود الحكومية، وتلافي مواجهة نظام يفرض قبضة حديدية على ممارسة الأديان.

المصدر : الجزيرة مباشر