غزة وانتظار ثمار السنن الكونية

كتائب القسام (غيتي)

 

أعترف أنني وكثيرين مع بداية العدوان الإسرائيلي عقب عملية “طوفان الأقصى”، كنا مشفقين على المقاومة من توالي القصف الوحشي، وخاصة بعد الدعم الأمريكي والبريطاني والألماني والفرنسي الحربي، ولم نكن نتصور أن تصمد المقاومة لأكثر من أربعة أشهر أمام كل تلك القوى، رغم الحصار والدمار، بل وتكبدها للعدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.

وعزز من إشفاقنا على المقاومة الخذلان المستمر من جانب الحكام العرب والمسلمين، وصورية مواقفهم ومؤتمراتهم وتصريحاتهم، بل وتواطؤ بعضهم مع العدو للقضاء على المقاومة، ويبدو أن يقيننا كان ضعيفًا، وأننا نسينا أن هؤلاء المقاومين هم من حققوا نصر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بكل ما به من تخطيط وتنفيذ مُحكم، وأن من نفذ عملية “طوفان الأقصى” فمن المؤكد أنه قد استعد لسيناريوهات رد الفعل الإسرائيلي والغربي عليها، بما لديهم من خبرات في الحروب السابقة من 2006 و2008 و2012 و2014 و2021.

وظل الإشفاق الممزوج بالخوف يحكم موقفنا طوال القصف الجوي المستمر وعمليات الغزو البري لشمال غزة، لكن عمليات المقاومة تجاه العدو كانت تمنحنا بعض الطمأنينة، واستمر هذا الإشفاق مع الغزو البري لخان يونس لتصاحبه طمأنينة جزئية نتيجة استمرار عمليات المقاومة، مصحوبة بخشية تأثر صمود أهالي غزة، والمعاناة نتيجة نقص الغذاء والعلاج والدواء والوقود والكهرباء والاتصالات، وتدمير المستشفيات والمرافق والطرق، والحرب النفسية التي تشنها إسرائيل مدعومة بالمنظومة الإعلامية الغربية، بل والعربية في كثير من الأحيان.

وجاء الغزو البري المرتقب لرفح الأكثر اكتظاظًا بالسكان الذين ليس لديهم مكان آخر يلجؤون إليه، سوى تحقيق هدف العدو ومن يتعاونون معه بالهرب إلى سيناء، لتعود حالة الإشفاق على المقاومة وعلى سكان غزة تزداد مرة أخرى، خاصة مع استمرار الخذلان من الحكام العرب والمسلمين، والتصريحات الأمريكية المؤيدة للغزو البري المرتقب، والاكتفاء الأوروبي بالبيانات التي تتحدث عن أضرار الغزو البري على سكان رفح، وعدم احترام إسرائيل ومن يساندها لتحذيرات الأمم المتحدة أو منظمة الصحة العالمية من الآثار الدموية للغزو، وعدم اكتراثهم بقرارات محكمة العدل الدولية التي طالبت بتجنب الإجراءات المسببة للإبادة الجماعية.

تأييد شعبي غربي ومقاومة في جبهات عربية

لكن الأمر يستحق النظر إليه بنظرة أوسع وأشمل، فإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي وقادة جيشه يسعون لإطالة الحرب، للحصول على أية مكاسب تنقذهم من المحاسبة بعد توقف العدوان، وإذا كانت الولايات المتحدة مستمرة في تقديم الدعم الحربي والمالي والسياسي، وإذا كانت بعض الدول العربية في لهفة لسرعة القضاء على المقاومة، فإن تلك الصورة فيها جوانب أخرى إيجابية، أولها صمود المقاومة وصمود شعب غزة البطل رغم كل ما لحق به من دمار وما قدمه من الشهداء والجرحى.

فهذه الأشهر الأربعة بلا شك قد أكسبت المقاومة خبرات عملية حربية سوف توظفها في عملياتها بالفترة المقبلة، وكذلك إثبات خيار المقاومة فاعليته مع عدو لا يعرف سوى لغة القوة، وتبين مدى هشاشة القوة العسكرية الإسرائيلية وزيف ادعاءاتها السابقة كقوة لا تقهر، وأن قوتها تستند أساسًا إلى الدعم الغربي، وبإمداد المقاومة بنظام للدفاع الجوي وبعض التسليح المتقدم وفك الحصار كان يمكن النيل منها بصورة أكبر، كذلك من الإيجابيات مشاركة المقاومة العراقية واللبنانية واليمنية في مهاجمة أهداف إسرائيلية وأمريكية بسبب العدوان على غزة.

واكتساب القضية الفلسطينية المزيد من التأييد الدولي، الذي عبّرت عنه قرارات الجمعية العامة للأم المتحدة، وهذا التعاطف الدولي من قطاعات من شعوب العالم التي تظاهرت مطالبة بوقف إطلاق النار في العديد من العواصم الغربية، وأثره السلبي في صورة إسرائيل دوليًا، وعودة القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام الدولي بقوة، واليقين دوليًا أنه لن يحدث استقرار في المنطقة دون حل جذري للقضية الفلسطينية.

اليقين بالنصر مع استمرار المقاومة

لكن هناك عاملًا آخر له أثره نعتقد به نحن سكان للمنطقة، وهو السنن الكونية في حياة البشر ومجريات الأمور، فهناك وعد إلهي بالنصر والتأييد لمن نصر الله وجاهد في سبيله، وهؤلاء قدموا آلاف الشهداء والجرحى دفاعًا عن وطنهم، فمن المؤكد أن هناك ما نسميه جوائز السماء التي يمنحها الله لكل من سار على الدرب.

فمن سخّر جنوب إفريقيا لرفع قضية الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، قادر على أن يسخر في ملكوته وييسر من يسهم في معاونة سكان غزة والمقاومة في قضيتهم العادلة، بما لا يمكن لأحد أن يتوقعه من أحداث، ولا يعني هذا الركون والتواكل، وإنما ذلك التوكل يأتي بعد أن أخذت المقاومة بالأسباب، وأعدت ما استطاعت من قوة أرهبت بها العدو، وقاتلت لشهور وقبلها لسنوات بحروب عدة، كما قدّم سكان غزة التضحيات وقبلها تحمل معاناة الحصار لسبع عشرة سنة متصلة، وما زالت المقاومة وسكان غزة يقدمون التضحيات.

فما من شعب قاوم الاحتلال وقدم التضحيات إلا ونال حريته، خاصة وأن فلسطين تعد البلد الوحيد الذي ما زال محتلًا في العالم، مما يجمع حوله عددًا من شعوب العالم التي عانت من ويلات الاحتلال الغربي لها، وعانت من ويلات الإبادة الجماعية كما حدث مع ناميبيا، التي تضامنت مع فلسطين ضد ألمانيا التي مارست الإبادة الجماعية معها، ومعاناة جنوب إفريقيا من الإبادة الجماعية مما دفعها للتضامن مع فلسطين، نظرًا لتعاون إسرائيل مع النظام العنصري السابق بها.

وهو ما يتطلب منا أيضًا أن نستمر في السعي لتوصيل المساعدات الغذائية والطبية والكسائية لسكان غزة، والضغط على الحكام بقدر المستطاع لتغيير مواقفهم، وشرح عدالة القضية الفلسطينية للعالم وفضح الرواية الإسرائيلية للأحداث، والدعاء بالثبات للمقاومة ولسكان غزة، وأن يطعمهم الله من الجوع وأن يأمنهم من الخوف، وأن يرزقهم أسباب الثبات والقوة من حيث لا يحتسبون، اللهم آمين.

 

المصدر : الجزيرة مباشر