في يومها العالمي.. العالم ينعى حرية الصحافة

خالد البلشي نقيب الصحفيين المصريين

لأول مرة منذ سنوات، يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة بلهجة أقرب إلى الرثاء.

فبتصريحات عدد من المسؤولين الرسميين في ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة، انكشف مشهد التراجع المخيف للصحافة وحريتها، وظهرت الأثمان الفادحة التي دفعها الصحفيون في عام 2024.

بلغة أقرب إلى رثاء الصحافة وحريتها، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي نعى فيها الصحفيين الذين سقطوا أثناء ممارستهم لعملهم في فلسطين المحتلة، ثم أنهى كلمته في ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة بتأكيد أن الصحافة ليست جريمة في أي مكان في العالم، وكأنه يحاول إصلاح ما ارتكبته إدارته من جرائم في دعم العدوان الصهيوني على أهل غزة، وهو الدعم الذي دفع الصحفيون جزءًا من تكلفته ضريبة لممارستهم مهنتهم في أجواء حرب إبادة غير مسبوقة.

من الرئيس الأمريكي إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تواصلت اللغة التي ترثي حال الصحافة في العالم، وتكشف المناخ السيئ الذي تحيا فيه مهنة البحث عن الحقيقة في عام هو الأصعب على الصحفيين، فقد رأي غوتيريش أن العاملين في وسائل الإعلام في العالم كله يجازفون بحياتهم وهم يحاولون تزويدنا بالأخبار عن كل ما يجري، بداية بالحروب وانتهاء بالديمقراطية، وكشف عن شعوره “بالهول والفزع” من العدد الكبير الذي قُتل من الصحفيين خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، معلنًا تقديره لما تقوم به وسائل الإعلام لضمان إخبار الجمهور بالقضايا الجارية وإشراكه فيها.

تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة يمكن تصنيفها بأنها تكشف حال الصحافة أكثر مما تدعم الصحفيين، وتبني أملًا في أن تكون السنوات المقبلة أفضل حالًا وأكثر حرية من العام الحالي الذي فقد العاملون بالإعلام فيه عشرات الصحفيين قبل أن ينتصف، في حصيلة هي الأسوأ على الإطلاق منذ سنوات.

تقارير دولية كاشفة لأوضاع الصحافة

التقرير السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود” جاء كاشفًا هو أيضًا لأوضاع الصحافة في العالم، وكان هو الآخر أقرب إلى الرثاء، سواء للعاملين بالمهنة أو للمهنة ذاتها بعد أن استبيحت حياة أبنائها ودفعت هي ثمنًا غاليًا من حريتها المهدرة.

فقد ذكر تقرير (مراسلون بلا حدود) أن هذا العام يتميز على المستوى الدولي “بغياب واضح للإرادة السياسية من جانب المجتمع الدولي لفرض مبادئ حماية الصحفيين”، كاشفًا أن الحرب في غزة “اتسمت بعدد قياسي من الأحداث والانتهاكات ضد الصحفيين ووسائل الإعلام منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023”.

ووفقًا للمؤشر العالمي لحرية الصحافة لعام 2024 الذي تعلنه “مراسلون بلا حدود”، فإن الأراضي الفلسطينية تحتل المرتبة 157 من بين 180 دولة ومنطقة شملها الاستطلاع، لكنها تأتي ضمن الدول العشر الأخيرة فيما يتعلق بأمن الصحفيين.

فلسطين تدفع الثمن الأكبر

في عام هو الأقسى على وسائل الإعلام، دفع الصحفيون الفلسطينيون الثمن الأكبر من حياتهم وحريتهم حتى الآن، فوفق نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فإن أكثر من 140 صحفيًّا فقدوا حياتهم خلال تغطية تفاصيل حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، الأرقام نفسها كاشفة ليس فقط للإجرام الذي يمارسه الكيان المحتل، بل أيضًا للأثمان الفادحة التي دفعها الصحفيون في فلسطين وهم يدافعون عن حق الناس في المعرفة، متسلحين فقط بالكاميرا والقلم وبالإيمان بحقهم الأصيل في ممارسة عملهم بأمان ودون خوف.

الصورة تبدو مخيفة أكثر إذا أضفنا إليها الصحفيين الذين تعرضوا للاعتقال على يد قوات الاحتلال، فضلًا عن هؤلاء الذين فقدوا عائلاتهم بالكامل أو بعضًا منها، أو المؤسسات الإعلامية التي تعرضت للقصف مما أدى إلى تدميرها كليًّا أو جزئيًّا.

في عالم تحكمه القوة لا القانون، ويتراجع فيه حق الإنسان في الحياة والحرية، تبدو الصحافة هي العدو الأول للأنظمة السياسية، ويبدو حق الإنسان في المعرفة مخيفًا ومقلقًا لدرجة تدفع إلى الإيذاء والقتل، هذا هو مختصر ما حدث حتى الآن وطوال أربعة أشهر فقط من عام 2024.

هيئة اليونسكو حاولت إصلاح نتائج حرب الإبادة على قطاع غزة بمنح الصحفيين الفلسطينيين جائزة حرية الصحافة للعام الحالي، وهي جائزة مستحقة، وإن كانت تبدو تأكيدًا جديدًا على حالة الرثاء التي تتعرض لها حرية الصحافة من مسؤولين ومؤسسات دولية فشلت في حماية حياة الصحفيين فقررت تكريمهم بعد أن سقطوا في معارك الإبادة الصهيونية، بدعم من دول غربية لا تكف عن الحديث عن الحرية والحق في المعرفة، بل وقبل كل ذلك وبعده الحق في الحياة ذاتها.

دولتان عربيتان في مرمى حصار الصحافة

رثاء حرية الصحافة لم يقف عند حدود ما يتعرض له الصحفيون في فلسطين المحتلة، بل تجاوز هذا إلى قيود كبيرة وحصار مرعب في دولتين عربيتين على الأقل.

ففي اليوم نفسه الذي “يحتفل” فيه العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة، كانت نقابة الصحفيين في تونس- مهد الربيع العربي- تصدر تقريرًا ترصد فيه انتهاكات جسيمة وحصارًا قاسيًا فرضته السلطة هناك على الصحافة وحريتها، فضلًا عن تهديدات يتلقاها الصحفيون بالاعتقال بسبب قضايا تتعلق بالنشر أو الرأي، وقد شهدت الشهور الماضية انتهاكات ضد الصحافة رصدتها النقابة التونسية وأعلنتها للرأي العام.

الأمر نفسه حدث في مصر، فقد أصدر نقيب الصحفيين المصريين خالد البلشي بيانًا في ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة يدعو فيه إلى مساحات أوسع من الحرية، ويؤكد أن النقابة المصرية “ما زالت تنتظر اليوم الذي تخلو فيه السجون من كل الصحفيين المحبوسين، والمواطنين المصريين المقيدة حريتهم على ذمة قضايا رأي ونشر”.

‎لذلك “فإنها تجدد مطالبها بالإفراج عن 20 صحفيًّا مصريًّا ما زالوا قيد الحبس، بينهم 7 من أعضاء النقابة، وكذلك دمج الصحفيين المفرج عنهم في المجتمع، وتوفير فرص عمل لهم”.

‎كما تكرر النقابة مطالبها بتمكين النقيب وأعضاء المجلس من زيارة الصحفيين المحبوسين في محبسهم.

بيان نقيب الصحفيين المصريين أوضح أن هناك مطالب محددة تضمن للصحافة حريتها وازدهارها وتطورها، على رأسها إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر، فضلًا عن تعديل نصوص الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية، وإصدار قانون تداول المعلومات، ورفع الحجب عن المواقع الصحفية، وتعديل التشريعات المنظمة للعمل الصحفي بما يسهم في رفع القيود عن الصحافة.

ما كشفه اليوم العالمي لحرية الصحافة يثبت أن طريقًا طويلًا على الصحفيين في الوطن العربي أن يقطعوه، وأن درب الوصول إلى الصحافة الحرة ينقصه خطوات عديدة، والمؤكد أن إرادة الصحفيين العرب وإصرارهم على استكمال مشوار انتزاع الحرية لن يكتمل بدون تضامنهم الدائم، وإيمانهم أن الحرية هي حق للمهنة وللأوطان، وأنه لا صحافة بلا حرية.

المصدر : الجزيرة مباشر