بين غزة و”بحر البقر” 54 عاما وما يستحق القول

المدرسة التي استهدفها الإجرام الإسرائيلي وقد تحولت الى مدرسة "شهداء بحر البقر" (منصات التواصل الاجتماعي)

من يجوب شوارع القاهرة ومدن مصر، يلاحظ كيف حافظ المصريون على المعابد اليهودية؟ فلم تتعرض للتخريب أو التدمير على الرغم من العدوان الإسرائيلي المتكرر عليهم وعداء خمسة حروب: 1948 و1956 و1967 والاستنزاف 69 / 1970، و1973. ومن يراجع وثائق حرب أكتوبر الذي نشرها العام الماضي موقع “أرشيف الدولة” بإسرائيل بعد مرور 50 عاما يتيقن أن المصريين، كما في الحروب السابقة، لم يهاجموا هدفا مدنيا واحدا، بل إن “الموساد” قبل إندلاع الحرب تلقى ما يفيد بأن عمق إسرائيل سيكون آمنا.

ومع حرب الإبادة الجارية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على قطاع غزة، تفرض المقارنة نفسها بعد ستة أشهر خلفت تدمير 229 مسجدا تدميرا كليا و297 جزئيا، فضلا عن ثلاثة كنائس، ومعها 100 مدرسة وجامعة كليا و305 جزئيا، وفق إحصاء للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة الجمعة الماضية.

5 قنابل وصاروخان

تستهدف مدرسة ابتدائية

يوم 8 إبريل/نيسان، مرت 54 سنة على مجزرة “بحر البقر”، حين شن الجيش الإسرائيلي غارة بثلاث طائرات “فانتوم” وخمسة قنابل وصاروخين من مصانع السلاح الأمريكية، استهدفت مدرسة ابتدائية للأطفال في هذه القرية بمحافظة الشرقية المصرية، فخلّفت نحو 40 طفلا شهيدا أعمارهم بين 5 و10 سنوات، وعشرات الجرحى من تلاميذ المدرسة ومعلميها.

ويلفت النظر أن صفحات التواصل الاجتماعي للمصريين امتلأت هذه المرة بمعلومات وصور فوتوغرافية تستدعي الذكرى وتقوم بإحيائها، وبعضها من الصفحات الأولى لصحف القاهرة حينها. ويبدو، إن لم أكن مخطئا، أنه الاستدعاء الأكثر أهمية وكثافة لذكرى “بحر البقر” منذ ولوج أهل المحروسة وشبابها إلى عالم “فيسبوك”.

“نيويورك تايمز” تكذب

“ديان” دون تصريح باسمه

بالعودة إلى أرشيفات الصحافة الأمريكية ربيع 1970، يمكن العثور على تقرير نشرته “نيويورك تايمز” بعد هذه المجزرة بأربعة أيام، في 12 إبريل، بعنوان “لا دليل على الأسلحة في بلدة مصرية”. ولم ترد في تقرير مراسل الصحيفة بالقاهرة كلمات وزير الحرب الإسرائيلي الجنرال “موشي ديان” حين قال في البداية “ربما يضع المصريون تلاميذ الابتدائي في قاعدة عسكرية”، تبريرا لقتل أطفال “بحر البقر” بعد ساعة واحدة من وصولهم إلى مدرستهم. وهذا قبل أن تعود الدعاية الصهيونية لتتراجع، وتقول “قصف المدرسة كان خطأ تراجيديا غير مقصود”، وتماما كما تفعل كل يوم بشأن جرائم الجيش الإسرائيلي في غزة، وهذا وجه شبه أول.

لكن يحتفظ تقرير “نيويورك تايمز” هذا بملاحظة المراسل كشاهد عيان بأنه لم ير أي أثر لمعدات عسكرية بين حطام مدرسة متواضعة في الريف جرت تسويتها بالأرض ومبنى استراحة مهندسي الإصلاح الزراعي أصيب بجوارها. وفي التقرير ذاته عبارة مهمة لمدير مشروع الإصلاح المهندس عاطف خضر، ونصها “لم يكن لدينا أي سلاح أو شيء لنطلقه على طائرات حامت فوق المدرسة على ارتفاع منخفض أكثر من مرة قبل قصفها”.

كيف تهرب من جبهة القتال

بمجازر قرب النيل؟

سياق مأساة “بحر البقر”، بعد مجزرة أخرى شهيرة راح ضحيتها قبل أقل من شهرين نحو 90 عاملا بغارة جوية على مصنع “أبي زعبل”، يوثقه المؤرخ الأكاديمي والكاتب المولود في إسرائيل “أهارون برجمان” في كتابه “حروب إسرائيل: تاريخ منذ 1947″، الصادر من دار “روتليدج” بنيويورك في طبعات عدة بدءا من 2010، وحتى الرابعة 2016 التي راجعناها.

وتحت عنوان “استراتيجية الاختراق في العمق”، كتب -بالاستناد إلى مصادر تل أبيب وواشنطن- أن معنويات القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل انخفضت عندما وجدت جيشها عاجزا أمام استمرار حرب الاستنزاف، وفاعلية مدفعية وعمليات “كوماندوز” الجيش المصري بطول قناة السويس، ومع وقع نشر الصحافة العبرية لصور الجنود العائدين كل يوم من “خط برليف” في نعوش على الرأي العام الإسرائيلي.

وببساطة ووضوح، كان هذا هو سياق قرار الضرب في العمق المصري وارتكاب مجازر ضد المدنيين وإلقاء الألعاب المفخخة بالمتفجرات في شوارع أطراف المدن خلال الغارات لتحصد حياة المزيد من الأطفال. وهكذا كان اللجوء إلى ضرب المدنيين لإجبار القاهرة على وقف إطلاق النار على “خط برليف”، وصولا إلى القبول بمبادرة وزير الخارجية الأمريكي “روجرز”. وتماما كما تفعل إسرائيل وحتى الآن ضد الشعب الفلسطيني ومدنييه وأطفاله، ومن يساعده من عمال الإغاثة الدوليين، جراء العجز عن هزيمة مقاومته الأسطورية في غزة، وفي هذا وجه الشبه الثاني بين “بحر البقر” وغزة.

 عودة إلى قتل المدنيين

بالسلاح الأمريكي

يؤرخ “برجمان” لمرحلة تكثيف “الضرب في العمق المصري” بين 7 يناير/كانون الثاني و18 إبريل/نيسان 1970، ويتضح أن سلاح الجو الإسرائيلي شن خلالها 3300 غارة داخل العمق المصري بعيدا عن جبهة القتال بقناة السويس، وألقى خلالها نحو 8 آلاف طن من المتفجرات.

وتماما أيضا مثلما يحدث مع غزة الآن، يوثق الكتاب بالمصادر الأمريكية والإسرائيلية أن شن غارات راح ضحيتها مدنيون لم يكن ممكنا بدون إمداد الإدارة الأمريكية (نيكسون) للجيش الإسرائيلي بدفعات جديدة من طائرات “فانتوم” و”سكاي هوك” مع الذخائر الحديثة، وهذا وجه الشبه الثالث.

فقراء هنا وهناك أمام

رفاهية المستعمرين وجيشهم

في أرشيفات الصحافة الأمريكية عن “بحر البقر” ما يوثق لحالها وأحوال أهلها الفلاحين الفقراء، ولما كانت عليه مدرسة أطفالها البائسة المكونة من خمس غرف في طابق واحد لا غير. كما يتضح من تقرير لاحق حققه موفد لـ”نيويورك تايمز” إلى القرية نفسها مع “سلام السادات”، أنها لم تكن قد وصلت إليها الكهرباء بعد، وهذا التقرير منشور بعدد 4 ديسمبر/كانون الأول 1978، تحت عنوان “قرية في مصر قُصفت بالقنابل ترى السلام ليس سهلا”.

وهنا علينا إدراك أبعاد كامنة في المواجهة المتوالية الحلقات بامتداد جغرافيا الصراع بين الضحايا الأكثر فقرا وبؤسا أصحاب الأرض المعتدى عليهم سواء أكانوا مصريين أو فلسطينيين أو لبنانيين أو غيرهم، وهؤلاء المستعمرين المستجلبين من خارج فلسطين لاستيطانها وتشغيل مشروع “كولونيالي” يتطلب توافر عناصر جذب اقتصادية ومعيشية لليهود من الخارج، وأيضا بتوظيف الدين مع مزجه بخرافات أيديولوجية قومية.

ولسنا بحاجة إلى التعليق بكلمة مقارنة بين حال معظم الفلسطينيين أصحاب الأرض اليوم بمعيشة المستعمرين الصهاينة حول غزة أو في الضفة ومدن وقرى فلسطين المحتلة عام 1948، مع ما تعلنه من مغريات استهلاك ورفاهية، وطلبا لجلب مزيد من المهاجرين اليهود من مجتمعات رأسمالية متقدمة كالولايات المتحدة وكندا.

ويكفينا وضع صورة المقاوم الذي يخرج من وسط الخرائب في “تيشيرت” حال لونه من الشمس والأتربة وربما ممزق وبقدم “فردة شبشب” حاملا سلاحا متواضعا مصنوعا بورشة إلى جوار صورة جندي الاحتلال المدجج بأحدث التقنيات والتجهيزات ووسائل التنقل والاتصالات وملابس القتال المزودة بكل ما تتصور ولا تتصور.

وتأخذ المقارنة، مع وجه الشبه الرابع، عمقها وأبعادها عندما نتذكر كيف كانت إمكانات وسبل الرفاهية التي تميز بها الجندي الإسرائيلي داخل “خط بارليف” الحصين، الذي دمره جيش معظمه من أبناء الفلاحين والعمال وصغار الموظفين الفقراء في أكتوبر 1973.

وأعتقد أننا لو أجرينا المقارنة ذاتها مع كل حروب الشعوب مع الاستعمار والغزاة والمستوطنين المستعمرين لخرجنا بنتائج التشابه نفسها.

المصدر : الجزيرة مباشر