نتائج البلديات التركية.. هل تمهد لانتخابات رئاسية مبكرة؟

الرئيس رجب طيب أردوغان يحيي مؤيديه عقب الإدلاء بصوته في الانتخابات البلدية (رويترز)

 

النتيجة التي انتهت إليها الانتخابات البلدية التركية، والتي أطاحت حزب العدالة والتنمية الحاكم من مركز الصدارة الذي تبوأه خلال السنوات العشرين الماضية فاجأت الكثيرين (تراجعت حصة الحزب من 39 بلدية إلى 24 فقط بينما فاز حزب الشعب بـ35 بلدية منها الثلاث الكبرى مضيفا 14 بلدية جديدة). لم أكن ممن فوجئوا، بل سبق أن توقعت هذا التراجع في مقالي على هذا الموقع الأسبوع الماضي بعنوان “لماذا تراجع الاهتمام بالانتخابات البلدية التركية؟”، وقد ذكرت فيه أن موجة التضخم الكبيرة وحرب غزة ستُنتجان تصويتا عقابيا، كما ستتسببان في عزوف البعض عن المشاركة وهو ما حدث (تراجعت المشاركة من 85% في انتخابات 2019 إلى 78% هذه المرة).

حتى حزب العدالة والتنمية كان يشعر داخليا بالقلق رغم أنه كان يُظهر عكس ذلك، فالشارع التركي كان يموج بحالة غضب تنتظر الفرصة للتعبير عن نفسها، بسبب تفاقم موجة الغلاء التي بلغت 72% وربما أكثر للسلع الغذائية، والتي تُعَد الأعلى في البلاد منذ وصول الحزب إلى الحكم في 2002، وقطاع كبير من الحاضنة الشعبية الطبيعية للحزب (المحافظين) لم يكونوا راضين عن موقفه تجاه العدوان على غزة، وهؤلاء صوّت بعضهم (6%) لصالح حزب الرفاه من جديد (رئيسه نجل الزعيم التاريخي نجم الدين أربكان) الذي تبنى موقفا أكثر راديكالية تجاه العدوان، كما أبطل بعضهم أصواتهم، وعزف بعضهم عن المشاركة أساسا حتى يتجنب حرجا ضميريا، أي أن أصوات هؤلاء الغاضبين لم تذهب إلى المعارضة التي لا تتبنى موقفا أفضل من العدالة والتنمية تجاه غزة.

نقطة تحوّل

عاش حزب العدالة والتنمية ليلة حزينة عقب إعلان النتيجة، لكن الرئيس أردوغان كان هو الأكثر تماسكا حين عبّر عن احترامه لإرادة الناخبين والتزامه بالديمقراطية، مؤكدا أن النتيجة تشكل “نقطة تحوّل”، ومتعهدا بمراجعة أداء حزبه بكل شفافية وشجاعة لإصلاح الأخطاء، والحقيقة أن الحزب كان يحتاج إلى “نوبة صحيان” أو جرس إنذار قوي يفيقه، ويدفعه إلى مراجعة حساباته وممارساته، لقد قضى الحزب أطول فترة في حكم تركيا عبر انتخابات تنافسية متجاوزا كل الأحزاب الأخرى بما فيها حزب الشعب الذي أسسه مؤسس الجمهورية الحديثة كمال أتاتورك، كما أن أردوغان نفسه حكم رئيسا للوزراء أو رئيس دولة أطول فترة (من 2003 وتستمر حتى 2028) متجاوزا كل الزعماء الأتراك بمن في ذلك مؤسس الجمهورية نفسه كمال أتاتورك الذي حكم 15 عاما حتى وفاته.

ترك حزب العدالة والتنمية بصمات واضحة على الدولة والمجتمع خلال سنوات حكمه، حيث أصبحت تركيا -ولا تزال- ضمن مجموعة العشرين الأكبر اقتصاديا رغم كل ما تتعرض له من مشكلات تضخم وتراجع لسعر الليرة، وشهدت تركيا خلال فترة حكمه تحديثا واسعا في بنيتها التحتية وعمرانها وصناعتها حتى أصبحت مصدرة للكثير من المنتجات الصناعية المدنية والعسكرية، وأصبح جيشها أحد أكبر عشرة جيوش عالميا، وأصبحت لاعبا إقليميا لا يمكن تجاوزه في قضايا المنطقة، وتمكنت من حسم بعض الصراعات الإقليمية لصالح حلفائها، وتخلصت من معظم بقايا الحكم العسكري خصوصا بعد وأد المحاولة الانقلابية في 2016، واستقرت تجربتها الديمقراطية إلى حد كبير، ونتائج الانتخابات البلدية الأخيرة -وقبلها البرلمانية والرئاسية- تؤكد ذلك.

رغم كل تلك الإنجازات التي تعرفها الأجيال الأكبر سنا، فإن الأجيال الجديدة التي لم تر تركيا قبل التحديث والتطوير ترغب في التغيير، فقد وُلد جيل كامل في ظل حكم العدالة والتنمية، وهو يرغب في مشاهدة حكومات أخرى، لكن حسن أداء الحزب في الفترة الماضية أقنع تلك الأصوات بمنحه فرصا جديدة، وحين ترهل الحزب، وشاخ أداؤه تعالت هذه المطالبات مجددا.

زعيم كاريزمي.. ولكن

الرئيس أردوغان هو زعيم كاريزمي، وهذه الكاريزمية تمنح صاحبها حضورا وقدرات أكبر على اتخاذ القرارات الجريئة، لكن مشكلة الزعيم الكاريزمي أنه لا يرى غالبا إلا نفسه، ولا يهتم كثيرا بصناعة خلفاء سياسيين له، بل إن أردوغان تخلص خلال السنوات الماضية من رفاق دربه الذين كانوا يمثلون روافع أساسية في الحزب مثل الرئيس الأسبق عبد الله غول، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، ووزير الاقتصاد الشهير علي باباجان، الذين شكلوا أحزابا منافسة، أصبحت مكتسباتها خصما من رصيد العدالة والتنمية، وحتى حين عيَّن نائبا له فإن هذا النائب لا يبدو هو الخيار الأرجح لخلافته في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

في البحث عن أسباب الهزيمة الأخيرة، ظهرت بعض أصوات من داخل العدالة والتنمية تحمّل اللاجئين المسؤولية، وهي “الشماعة” نفسها التي كانت المعارضة تستخدمها من قبل لتبرير خسائرها، والحقيقة أن قضية المهاجرين لم تكن هي القضية الأولى ولا الثانية على أجندة الانتخابات الأخيرة، كما أن الحزب فاز بولايات مكتظة بالمهاجرين مثل غازي عنتاب، في حين لم يحصل حزب الظفر الأشرس في مواجهة المهاجرين على أي بلدية، وتراجع حزب الجيد إلى أدنى مستوى له، وهذا يفرض على قادة الحزب البحث عن الأسباب الحقيقية للهزيمة كما طلب الرئيس أردوغان حتى يتمكنوا من علاج القصور قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.

كان من حسن حظ الحزب أن الهزيمة الكبرى جاءت في المحليات، التي هي رغم أهميتها وسلطاتها التي تختلف عن نظيراتها في دولنا العربية فإنها أقل تأثيرا من البرلمان والرئاسة، وإذا كان البعض يرى أن نتيجة الانتخابات البلدية ستغري المعارضة بالمطالبة بانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة بناء على تحولات الرأي العام، فإن تحقيق ذلك سيظل احتمالا ضعيفا حتى لو علت المناداة به، ذلك أن تحالف الجمهور الذي يقوده حزب العدالة لا يزال يتمتع بأغلبية مريحة في البرلمان الذي سيكون مسرح تلك الدعوات، ولن يُكتب لهذا الاحتمال النجاح إلا إذا تمكنت المعارضة من تفكيك تحالف الجمهور، واستقطاب كل أعضائه من غير العدالة والتنمية لصالح تلك الدعوة، وهو أمر بالغ الصعوبة في الأمد المنظور.

المصدر : الجزيرة مباشر