غزة.. كيف يعيش الناس؟

رغم الحصار الذي يخنق غزة فإن فرحة العيد استطاعت أن تخترقه وتغمر الأطفال وتسعد قلوبهم الغضة.

تحرص معظم الأسر في غزة على ألا تعيش الأسرة كلها في مكان واحد، فلا بد أن يكون بعض أفرادها في مكان آخر ومعهم أسماء الآخرين حتى إذا تعرضوا لقصف يستطيعون إنقاذهم من تحت الأنقاض أو يبحثون عنهم في المفقودين.

أكثر من 200 يوم قضاها الناس في غزة تحت أزيز الطيران الصهيوني والقذائف الصاروخية وأطنان المتفجرات، ونزوح إجباري متكرر تحت القصف المتواصل الذي يحصد الأرواح بمجون، وكأنهم ليسوا من الناس الذين يحق لهم الحياة بكل تفاصيلها الطبيعية من توافر مسكن به خصوصية وأمان وطعام وكهرباء ومياه نظيفة ووقود ودواء ومستشفيات، وكل ما يتمتع به الناس في العالم من أبسط حقوق البشر.

هموم ومصائب

أكل ناس غزة بسبب وحشية التجويع أوراق الشجر والخبيزة البرية لأشهر، واحتفل بعضهم بتناول البطاطا بعد ستة أشهر من غيابها، وآخرون احتفلوا بتناول الخبز بعد طول غياب، وكيف لا يحتفلون؟ فقد أكلوا مضطرين علف الحيوانات بعد طحنه وخبزه للبقاء على قيد الحياة.

يقال عن حق إن الهموم تأكل أصحابها وتُفقدهم مزاياهم وتسلبهم الصحة الجسدية، ورأينا كم خسر الناس في غزة الكثير من أوزانهم وتعرضوا لمشكلات صحية لسوء التغذية خاصة الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن، وأصيب كثيرون بأمراض صدرية لاضطرارهم إلى الطهي على الحطب لعدم وجود الوقود، واستعصت الروح الغزاوية على تراكم الهموم والمصائب والنكبات على ناس غزة، وواصلوا تكاتفهم وتراحمهم وتسابقهم في عون بعضهم بعضًا، وتقاسم القليل من الزاد، ووجدنا من يبذلون الجهد لإخراج قطة من الأنقاض، وشاهدنا طفلة تؤكد أنه على الرغم من ندرة الطعام فإنها تحتجز بعضه لقطتها لأنها من “أهل الدار”.

غادر غالبية ناس غزة ديارهم، واضطروا إلى النزوح والعيش في ملاجئ وخيام صنعوا بعضها من أغطية وبطاطين ومن قماش مظلات المساعدات، ومنازل من عبوات المساعدات التي وصلت إليهم.

يشكو سكان المخيمات انعدام الخصوصية لتلاصق الخيام، واضطرارهم إلى الحديث همسًا حتى لا يسمع الجيران كلامهم، وسكن غيرهم في مدارس مهدمة، وآخرون فضلوا العودة إلى بيوتهم المهدمة وأقاموا عليها خيامهم، تحديًا للواقع ولتقوية النفس ورفض الاستسلام.

اعتقال وتعذيب

من أصعب معاناة ناس غزة وجع الفقد لأحباء استشهدوا، ومرارة الاشتياق إلى من فُقدوا ولا يعرفون هل هم على قيد الحياة أم لا؟ وألم الافتراق الإجباري عن الأهل بسبب النزوح في غياب وسائل للتواصل معهم لندرة الإنترنت وغيابه في غالبية أنحاء غزة واضطرارهم إلى السير كيلومترات بحثًا عن مكان تتوافر به شبكة إنترنت.

يغتنم ناس غزة الفرص للعودة إلى بيوتهم بعد انسحاب الاحتلال ليروا هل تحولت إلى ركام أم لا؟ وهل يمكن ترميمها أم تساوت بالأرض تمامًا؟ أعلن شاب بعد الرجوع إلى بيته واكتشاف أنه تهدم بعد أربعة أشهر من مغادرته قسرًا، أنه سعيد بعودته إلى بيته بعد طول اشتياق.

يقضي ناس غزة يومهم في البحث عن طعام لأولادهم، والوقوف في طوابير طويلة لساعات للحصول على الماء النظيف، وينتشلون جثث الشهداء لمحاولة دفنهم في مقابر قبل القصف أو دفنهم في أي مكان بجوار أرصفة، ويبحثون عن مفقودين ويتخوفون أن يكون الاحتلال اعتقلهم ويتعرضون للتعذيب كما حدث لمن اعتقلهم من الرجال والنساء والأطفال، ويبحثون عن قنابل لم تنفجر وإبطالها، ويتوقعون اقتحامات الصهاينة ليلًا ونهارًا.

ويسيرون كيلومترات للحصول على مساعدات في البر والبحر، ويعودون بشهداء جدد قضوا أثناء البحث عما يسد جوع أسرهم ولو مؤقتًا، ويسهرون الليل مع صوت القصف المجنون، ويقومون بتهدئة الصغار ويتمنون أن تمر الليلة بسلام وبأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية قبل المادية.

انتظار الفرج

“الحمد لله” هي الكلمة التي لا تغيب عن ناس غزة صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا، في كل الأحوال، ويختتمون بها كلامهم حتى لو كان موجعًا للغاية، وينتظرون الفرج، ويتنفسون التعب والإنهاك، فقد طالت الغمة غير المسبوقة بلا فترات هدنة يستطيعون فيها التقاط الأنفاس وتدبُّر بعض أمور المعيشة الضرورية، والحياة بلا كهرباء قاسية جدًّا.

لم يتوقعوا استمرار القصف الوحشي في رمضان، وحلموا  بهدنة ولم تحدث، وتحملوا الصيام بلا سحور والإفطار على أقل القليل، وكتبوا على الخيام عبارات الترحيب برمضان، ورسم الصغار رسومًا ووضعوها على خيام مع زينة رمضان، واستقبلوا العيد بمحاولات زرع الفرحة في قلوب الصغار قبل وجوههم، وساعدوهم بشراء بعض الملابس الجديدة والحلوى للتخفيف عما شاهدوه وعايشوه من أوجاع يصرخ منها الكبار من موت ودمار وتشريد ونزوح تحت النيران، وغياب قسري عن المدارس، وحرمان طال كثيرًا من كل مباهج يتمتع بها أطفال العالم من غذاء يحتاجون إليه للنمو.

الغصة في القلوب رغم الابتسامة في الوجوه، ففي كل أسرة شهيد ومفقود ومصاب ينتظر السفر للعلاج أو لإجراء جراحة قبل فوات الأوان، ورب أسرة ينتفض وجعًا، فلا يستطيع شراء احتياجات أسرته للغلاء الشديد ولندرة البضائع، ويتحدون الأوجاع التي طالت بعقد قران وزفاف في خيام.

وجهت طفلة استشهد كل أفراد أسرتها رسالة إلى الصهاينة “أطفال غزة مهما عملتوا فينا بنصنع الفرحة بأيدينا”.

يثقون بأنهم يدفعون أثمان بقائهم في غزة، وأنهم يتعرضون للعقاب الجماعي، ويدركون ما يعتنقه العقل الصهيوني الجمعي وأعلنته بعض الفتاوى، كفتوى الحاخام نسيم مؤويل عام 2015 بوجوب اقتلاع أشجار الفلسطينيين، وفتوى الحاخام إلياكيم ليفانون بجواز تسميم آبار الفلسطينيين.

وفتوى أصدرها 15 حاخامًا برئاسة الحاخام يعكوف يوسف، تدعو إلى استهداف المدنيين الفلسطينيين بعد كل عمل مقاوم، فأجازت الفتوى تدمير ممتلكات المدنيين الفلسطينيين باعتبار أن هذا السلوك يمثل عملًا رادعًا يوضح للفلسطينيين الثمن الباهظ الذي تنطوي عليه محاولة المس بالصهاينة.

يثق ناس غزة وكل الفلسطينيين بقول أوجين أونيل “لن يصبح سارق المكان مالكًا له مهما فعل”.

المصدر : الجزيرة مباشر