الشيخ الزنداني علو في الحياة وفي الممات؟

الشيخ الزنداني في افتتاح أكاديمية أنصار النبيﷺ

من رحم الأزمة تولد الجائزة..

وفي ثنايا البلية تأتي العطية، والمحن في طياتها منح، وهذا من لطف الله بعباده، وحدبه عليهم، ورأيت ذلك عين اليقين إبان محنة الهجرة التي اختارها لنا خلال العقد الماضي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما توفر لي من القرب والجوار مع الأئمة الكبار، من أمثال الإمام يوسف القرضاوي رحمه الله، والعلامة عبدالمجيد الزنداني، الذي كنت أنجذب له من زاوية مختلفة، من جملة صفاته ومناقبه، وقد أفصحت عنها في عيد الأضحى الماضي، وأنا أحث طلاب العلم على فرصة لقائه، حيث كان يستقبل المهنئين، فقلت لهم من فاتته رؤية الأساتذة المؤسسين، ومن وضعوا اللبنات الأولى لمشروع  الحركة الإسلامية الحديثة، فليقض لبناته من رؤية الشيخ الزنداني فهو أحد البنائين.

وكان رحمه الله يقابل هذه الكلمات بابتسامته المعروفة وتواضعه الجم، وكانت أول البركات المباشرة من الشيخ عليّ، أنني كنت في طليعة من نشر خبر خروجه إلى تركيا، حتى أصبحت مصدر الخبر عند الرواة، ثم التقيته بعدما استقر به الحال في إسطنبول، وزرته مع رفقاء الجهاد الذين كانوا معه ضد الاحتلال الروسي لأفغانستان، ثم استقبل بعضهم في اليمن بعد ذلك، وظلوا في ضيافته وحمايته بضع سنين، حقق لهم فيها الأمن، ويسر لهم وسائل العيش، وظن بعضهم أنه لن يتذكره لطول العهد وانتشار الشيب، وكنت من تولى التعريف بالرفقة، ولما عرفت أحدهم بأنه متخصص في الدراسات السياسية، فناداه الشيخ باسمه وذكره بتاريخه الأول، وعرضت عليه ما تقوم به الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ من أعمال، وطلبت بركة دعائه فقال: أعلم أن المطلوب مني لنصرة رسول اللهﷺ أكثر من الدعاء وأنا مستعد لذلك، ثم قمنا لصلاة المغرب فلما سمع القراءة أخذ يبكي ويرتعش…

عنوان للتجديد

لم يكن الشيخ الزنداني تقليديا في أي مرحلة من مراحله، بل كان عنوانا للتجديد والابتكار، وقدم نموذجا فريدا في نشر العلم والدعوة، وقيادة الحركة والنهضة، فجمع بين المنهج الدعوي المعتدل، والمذهب السياسي العادل، حتى وصل إلى رئاسة تجمع الإصلاح، ورئيس هيئة علماء اليمن وعضو المجلس الرئاسي اليمني، وفي مجال التعليم حقق من الطفرات ما تفرد به عن أقرانه وحتى أساتذته المباشرين، فجدد علم الإيمان ثم أنشأ له جامعة الإيمان التي كان يؤمها الآلاف من اليمن ومن خارجه، وفي كل تخصصات العلم والمعرفة، وجعل من قضية الإيمان وما يتعلق به محور دعوته ودروسه وأبحاثه، ولعل باعثه في ذلك الميراث الذي خص به رسول اللهﷺ أهل اليمن عندما قال: “الإيمان يمان والحكمة يمانية”، ثم أسس في السعودية الهيئة العالمية للإعجاز في القرآن والسنة ثم ترأسها وقام بجملة من الأبحاث عن صور الإعجاز في الوحيين، واستقدم كبار العلماء في التخصصات المختلفة وعرضها عليهم وأقروها ووقعوا عليها، وأقام المؤتمرات الدولية من أجل ذلك وبحضور القامات العالمية المختلفة.

ثمرة غرسه

وعلى صعيدنا الخاص عندما أقدمت الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ على إطلاق أكاديمية متخصصة في علوم النصرة النبوية، ارتأينا أن يكون مع انطلاقتها الأولى وفي باكورة أعمالها تكريم الشيخ الزنداني، بصفته من أوائل من أقاموا المحاضن العلمية والتربوبة في عموم الحركة الإسلامية، بل إن جامعة الإيمان على الأسس التي بناها عليها، والأنظمة التي اعتمدها فيها، فلا أظن أحدا سبقه في هذا المضمار، وقصدنا أن يكرم أهل العطاء في حياتهم ويروا ثمرة غرسهم في تلامذتهم وأبنائهم ويطمئنوا على استمرار العطاء وإكمال المسير.

ومن أعجب ما توقفت عنده في عطاء الشيخ الزنداني الذي عاينته، أن الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ دعت لوقفات أمام مساجد العالم بعد صلاة الجمعة ردا على إساءات هندية تعرضت لمقام خير البرية، وطلبت من ابنه الأكبر د.عبدالله بصفته عضوا في مجلس الأمناء بالهيئة أن يرتب لنا حضور الوالد أمام مسجد بشاك شهير المركزي في إسطنبول، ثم رجع لي بالموافقة، وطلب مني ألا أطلب من الشيخ الكلام لتأثير ذلك على صحته، فقلت له تكفينا بركة حضوره، وإذا به يبادر بطلب مكبر الصوت ويبدأ بالهتاف في محبة رسول اللهﷺ والنكير على شانئيه، ثم تكلم بكلمة جامعة فيها قوة الشباب وحكمة الشيوخ وقرب له أولاده كرسيا ليجلس فأشاح بيده، فطلبوا مني أن أقنعه بالجلوس فقال لي اسمها “وقفة” لنصرة رسول اللهﷺ كيف أجلس في وقفة للحبيب محمد ﷺ ، مما جعلنا ننهي الوقفة قبل موعدها شفقة عليه.

افتتاح أكاديمية أنصار النبيﷺ وتكريم الشيخ الزنداني

في مجلس الدرويش

ثم شاءت إرادة الله أن أحظى بصحبته أسبوعا كاملا في مدينة صبنجا القريبة من إسطنبول وكنا نجلس إليه كل ليلة في مجلس “الدرويش” وكنت في كل يوم أرى عجبا حيث عادة الشيخ الصمت والإنصات ومعه جمع من أولاده وأحفاده في مقدمتهم د. عبد الله المتخصص في السياسة وعلومها، ود. محمد المتخصص في الطب النبوي، والشيخ علي أصغر الثلاثة وهو مرافق الشيخ والمتحدث عن حياة والده وأعماله وعلومه، إلا إذا تعلق الأمر بالشأن العام أحال الأمر لأخيه الأكبر، والشيخ عبدالمجيد يتابع بكل تركيز ويؤكد ذلك تدخله للتصويب في الأرقام أو طريقة نطق أسماء الأجانب، وفي النحو وفي القرآن الكريم كل ذلك سمعته منه وهو يصحح للمتحدث، وكنت أغتنم بعض السكتات لأسأله عن رحلته إلى مصر ثم انطلاقه في رحلته الدعوية فقال إنه وصل القاهرة عام 1958 لدراسة الصيدلة وسألته عن أول من لفت أنظاره للعمل الدعوي فقال مدرس الكيمياء الحيوية، وسألته عمن كان يجلس إليه من الطلاب الذين كانت لهم تجربة فقال الكاتب الكبير فهمي هويدي، وهنا تدخل أحد أولاده قائلا إن الوالد من بعد رجوعه من مصر وحتى الآن إذا قال طرفة أو مازح أحدا تكلم باللهجة المصرية.

                                                   في مجلس الدرويش بتركيا مع الزنداني وأولاده

 

العودة لليمن

ثم رأيت ذلك منه ملاطفة لنا وتواضعا منه حيث كان آية في التواضع المطبوع، واللين غير المتكلف، مع تمام الوقار والهيبة، وعاد إلى اليمن حاملا من مصر أجمل ما فيها كعادة كل النجباء الذين مروا بالمحروسة، واستطاع الشيخ الزنداني مع الأستاذ محمد محمود الزبيري وضع ملامح المشروع الدعوي والإصلاحي، وأخبر الشيخ عبدالمجيد أن شابًا ألمعيًا اسمه عبده محمد المخلافي كان قوميًا صادقًا، فتأثر  بهما، واشترك الثلاثة في إقامة بناء الحركة الإسلامية في اليمن، ومن خلالها استطاع الشيخ الزنداني أن يضرب في كل غنيمة صالحة بسهم محصلا في كل ذلك فضل السبق حتى ختم الله له بالموت في أرض الفاتح وظهر من حسن الخاتمة وكرامة الدفن والتشييع ما لا سبيل للبشر إلى ترتيبه أو السعي في إدراكه، وإنما هو فضل الله وإنعامه وكرامة الإيمان لمجدد علم الإيمان حيث توافقت وفاته مع وفاة الإمام المربي فضيلة الشيخ حسن أفندي خليفة الشيخ محمود أفندي الرمز التركي الكبير، وصلي على الشيخين في ساحة مسجد السلطان محمد الفاتح، وسط حشود لا حصر لها تقدمها الرئيس التركي رجب أردوغان الذي حرص على حمل الجثمان وتجهيز مقبرتين  في مقابر صاحب رسول اللهﷺ أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ثم عج الفضاء الإعلامي بكل أنواعه لذكر مفاخر الشيخ ومآثره، والتذكير  بأعماله وفضائله، وأسأل الله أن يرفع درجته في المهديين ويلحقنا بهم في الصالحين.

المصدر : الجزيرة مباشر