الردع الإيراني لإسرائيل والوعي العربي الغائب!

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي

لم يحظ حدث في الفترة الأخيرة بتباين كبير في توصيف مظاهره ونتائجه بين طرفيه، قدر ما حظيت به الضربة الإيرانية الأخيرة للاحتلال الإسرائيلي؛ ردًّا على استهداف الأخير للسفارة الإيرانية في دمشق، وقد انسحب هذا التباين إلى فضاء أوسع شمل المتابعين، والباحثين والمحللين، سواء على المستوى العسكري أو السياسي.

من ناحية أخرى، كشفت ردود النخب العربية المختلفة على الردع الإيراني للاحتلال الإسرائيلي عن مستويات متباينة من الوعي، من تحليلات وتعليقات ومقالات، ضجت بها الشاشات والمواقع، وشبكات التواصل الاجتماعي.

وبعيدا عن الوعي السليم، والرؤية الرصينة والفهم العميق للأحداث، كان لافتا للنظر ذلك الوعي المغيب الذي كشفته تلك الردود؛ فهناك من انطلق في ردوده حول الضربة الإيرانية للاحتلال الإسرائيلي من قاعدة طائفية، بينما غلبت على آخرين مراهقة فكرية، وتواضع في التفكير، وافتقار إلى فهم عميق للنتائج السياسية والعسكرية، وعدم اعتبار للحسابات الخاصة لدولة مستقلة كإيران، سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو المحلي، إلى الحد الذي اعتبر فيه بعضهم الرد الإيراني ضربا من ضروب الهزل والعبث، وكان على حد وصفهم “حربا مسرحية” و”تمثيلية حربية”، وأنه “كأن لم يكن”، وأخذوا يبالغون في التهوين من تأثيراته، ويعددون سلبيات نتائج ما أسموه “اللاضربة الإيرانية ضد إسرائيل” -بحسب وصف بعضهم- رغم أن تأثيراتها ظرفية مؤقتة، ومنها: أن الرد الإيراني حرف الأنظار عن غزة، علما بأنه لم يفرح أحد كفرح أهل غزة بالرد الإيراني، وأنه لأول مرة على مدار 190 يوما لم تحلق طائرة صهيونية واحدة في سماء غزة.

كما أشاروا إلى أن من سلبيات الضربة الإيرانية، أنها أعادت الدعم الأمريكي والغربي بقوة للاحتلال الإسرائيلي، رغم أن هذا الدعم لم يتوقف حقيقة يوما ما؛ مما جعلهم بغير قصد منهم متماهين كليا أو جزئيا مع السردية الصهيونية التي يُروَّج لها!

وعلى جانب آخر، تبنى فريق رواية الاحتلال الإسرائيلي كاملة منذ اللحظة الأولى، وكانوا ملكيين أكثر من الملك؛ وهؤلاء هم الصهاينة العرب، والراقصون في حلقات الذكر الصهيونية، والمتبتلون في محراب التطبيع.

منذ اللحظة الأولى للرد الإيراني كان هناك ما يمكن أن نصفه بأنه هبة صهيونية للدفاع عن الكيان المحتل، وكانت محاولات محمومة للانتقاص بأي شكل من هذا الرد، بل اجتهد الإعلام الصهيوني المنبت والمشرب والهوى في جعله نصرا للاحتلال الإسرائيلي المأزوم على مدار شهور منذ طوفان الأقصى.

من يحمي إسرائيل؟

الاحتلال الإسرائيلي كيان غير قائم بذاته، فهو مرتبط وجودا وعدما بالحماية الأمريكية والغربية، وفي الوقت ذاته تمثل إسرائيل استثمارا وجوديا لأمريكا والغرب، وهي الأداة التي تمكنهم من استمرار السيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها؛ ولذلك فوجود الاحتلال الإسرائيلي يُعد هدفا استراتيجيا متعدد المنافع سياسيا واقتصاديا وعسكريا لأمريكا والغرب.

سؤال ربما تردد كثيرا في الداخل الإسرائيلي بعد الرد الإيراني، هو: ماذا كانت إسرائيل لتفعل دون المشاركة الأمريكية والفرنسية والبريطانية، في صد الضربة الإيرانية؟

لا غرابة في الموقف الأمريكي والغربي اتجاه الرد الإيراني على الاحتلال الإسرائيلي، فلو كانت الضربة الإيرانية لإسرائيل “مسرحية” كما يروج بعضهم، وتدندن عليه نائحات التطبيع؛ لما استنفرت إدارة بايدن كل طاقتها لحث العديد من عواصم الدول، ومنها أنقرة والرياض وبكين، على التدخل لثني طهران وكبح جماحها في الرد على إسرائيل، ولما شهدنا تلك النفرة في العواصم الأوروبية باستدعاء سفراء إيران لديها للاحتجاج بعد تنفيذ الضربة ضد إسرائيل.

ثلاث دول كبرى، هي: أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ودول عربية، إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي، كانوا في حالة استنفار كامل عسكريا وأمنيا، هو الأعلى في تاريخ المنطقة؛ لمواجهة الضربة الجوية الإيرانية المعلن عنها مسبقا.

بحسب مصادر إسرائيلية، بلغت تكلفة اعتراض الضربة الجوية الإيرانية نحو 1.35 مليار دولار، وذلك فضلًا عن تكلفة عمليات الاعتراض التي قامت بها القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، التي تصدت لمعظم المسيّرات والصواريخ الإيرانية. وعلى الجانب الآخر، وبحسب المصادر الإيرانية، لم تزد تكلفة المسيّرات والصواريخ الإيرانية على 35 مليون دولار، وهذه رسائل واضحة إلى من يهونون من تأثيرات الضربة الإيرانية لإسرائيل.

النفاق الغربي وازدواجية المعايير

عقب الضربة الإيرانية للاحتلال الإسرائيلي، أجرى وزير خارجية بريطانيا، ديفيد كاميرون مقابلة تلفزيونية على قناة سكاي نيوز، قال خلالها إن مهاجمة إيران لإسرائيل كانت عملا متهورا، لتفاجئه محاورته في اللقاء، المذيعة “كاي بيرلي” بسؤال غير متوقع، قائلة: ماذا ستفعل بريطانيا لو سويت قنصليتها بالأرض؟ فأجاب كاميرون على الفور، قائلا: إن الرد البريطاني في مثل هذه المواقف سيكون قويا للغاية، لترد عليه المذيعة قائلة: إن هذا سيكون نفس الجواب الإيراني بخصوص هجومهم الأخير. وهنا يبدو الوزير كاميرون كأنه يريد أن يقول إن القواعد مختلفة بالنسبة لإيران وبريطانيا!

في هذه المقابلة قال ديفيد كاميرون: إن الهجوم الإيراني كان من الممكن أن يقتل آلاف الأشخاص، متجاهلا عن قصد أن إيران قد أعطت إنذارا قبل الهجوم بـ72 ساعة، واستهدفت المنشآت العسكرية فقط، وهذا تصرف يحسب من الناحية الأخلاقية لدولة إيران، ويتناسى كاميرون همجية جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي ارتكب أكثر من ثلاثة آلاف مجزرة في غزة منذ طوفان الأقصى؛ ليؤكد حقيقة النفاق الغربي، والازدواجية الصارخة في المعايير.

ختاما

بعيدا عن تباينات الوعي، وما أُشبعت به الضربة الإيرانية للاحتلال الإسرائيلي من جدل إيجابا أو سلبا، فإن الرد الإيراني كان خطوة استراتيجية مهمة، في إطار الحق المشروع في الدفاع، جاءت محكومة بضوابط واعتبارات، وحملت رسائل سياسية وعسكرية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وانتقلت إيران من ممارسة الصبر الاستراتيجي، إلى تحقيق التوازن الاستراتيجي.

لقد مثل الردع الإيراني لإسرائيل ربحا للمقاومة في غزة وفلسطين، وأكد فشل محاولات هزيمة محور المقاومة، وهذا ما لا يدركه أصحاب الوعي الغائب.

ولكن يبقى الانزلاق نحو صراع مفتوح قد يجر إلى حرب عالمية قائما، وهذا ما ستكشف عنه التفاعلات في الأشهر القادمة.

المصدر : الجزيرة مباشر