استشراف المستقبل يحتاج إلى شجاعة العلماء.. لماذا؟!

مظاهرات أمريكية منددة بالحرب على غزة (غيتي)

تلوح في الأفق الكثير من نذر الخطر التي تهدد العالم، في حين ينشغل الحكام بردود على أحداث، لا يدركون تأثيرها في شعوبهم. والنظم الاستبدادية في العالم العربي ما زالت تنظر تحت أقدامها، وتجمد تفكيرها عند حدود تلك الأفكار القديمة التي تضمنتها المخططات الأمريكية لشرق أوسط جديد يقوم على صفقة القرن.

لكن الرياح الهوجاء هبت فجأة، فأصبحت كل السفن تواجه الغرق إن لم يكتشف القادة أساليب النجاة، ويبحثوا عن أفكار جديدة تتناسب مع التحديات.

يمكن أن نلاحظ بوضوح أن النظم الاستبدادية العربية أصبحت تعيش في حالة جمود، فكل ما تتمناه من دنياها هو الاستقرار، فهي ترى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنها حققت إنجازات لا يصل إليها خيال، ولا يمكن تحقيقها في مئة عام، وحال شعوبها مهما بلغ من الفقر والذل والهوان أفضل من سوريا والعراق.

الاستبداد وعمى البصيرة!

دراسة الواقع توضح أن النظم العربية لا تدرك حقائق واضحة من أهمها أن غضب الشعوب ضد إسرائيل وأمريكا والاستبداد العربي يتزايد، وأنه يمكن أن ينفجر قريبا. يوضح ذلك تحليل الهتافات في مظاهرات الأردن والمغرب، فالشعوب أصبحت تفخر بجهاد المقاومة الفلسطينية، وتتطلع للقيام بدور في مساندتها، وترفض الخضوع والاستسلام.

ولو أن النظم العربية سمحت لمراكز بحوث تحرص على مصداقيتها بإجراء استطلاعات للرأي العام لاكتشفت الكثير من الحقائق التي يمكن أن تكشف المستقبل، ولعرفت أن الاستقرار لا يمكن أن يتحقق من دون إرضاء الشعوب التي أصبحت تتطلع لاختيار قيادات قوية تعبر عن الحرية والاستقلال، وترفض الخضوع والخنوع لأمريكا وإسرائيل.

الاستبداد والعداء للعلم

والتاريخ يوضح لنا أن الحاكم المستبد يكره العلم والعلماء، وكان لتلك الظاهرة نتائج كارثية، من أهمها عدم القدرة على استشراف المستقبل، واكتشاف الفرص التي يمكن أن تسهم في تحقيق النصر والمجد والتقدم والاستقلال.

لو أن االنظم الاستبدادية العربية تركت الحرية للعلماء؛ لأنتجوا الكثير من الأفكار التي تضيء الطريق للشعوب للكفاح من أجل تحقيق أهداف عليا، والتخطيط الاستراتيجي لبناء قوة الدولة الصلبة والناعمة.

لكن تلك النظم تتعامل مع العلماء كموظفين، تضيع أعمارهم في الخوف من العقاب والاضطهاد، أو في انتظار مكافآت السلطة التي تتحكم في اختيار من يحتلون المناصب الأكاديمية، وهي تختار من يمارس النفاق والخضوع وتنفيذ الأوامر من دون مناقشة، ولا يهتم بالبحث العلمي.

العلماء ينتجون الأفكار

لذلك كانت الحرية الأكاديمية من أهم الأسس التي يقوم عليها مستقبل الدول، وبناء قوتها؛ فالعالم الحر هو الذي ينتج الأفكار الجديدة، ويطرح الأسئلة التي تثير الخيال، ويقدم حلولا مبتكرة للمشكلات.

والشعوب تحتاج إلى علماء يقومون بدورهم في تغيير الواقع إلى الأفضل؛ ويقودون كفاحها لتحقيق الحرية، فالمعرفة هي الثروة الحقيقية للدول، ومصدر قوتها.

أين علماء السياسة الآن، وأين دورهم القيادي، وكيف يمكن أن يقوموا بوظيفتهم في بناء المستقبل؟! الأحداث الآن توضح أن العالم كله يتعرض لعملية تغيير، سوف تتيح الكثير من الفرص للشعوب لتحقيق آمالها في التحرر من الاستعمار القديم والجديد، وتبني نظما وطنية تدافع عن حقوقها، وتستثمر ثرواتها، وترفض النهب الغربي لهذه الثروات.

لو أن علماء السياسة أطلقوا لخيالهم العنان لاكتشفوا أن هناك إمكانيات لبناء تحالفات على أسس جديدة من أهمها الدين والثقافة والحضارة واللغة وتجارب الكفاح والأهداف المشتركة، وأن أيّة دولة تصر على أن تربط نفسها بحبال أمريكا وأوروبا وإسرائيل ستثير عداء الشعوب ضدها.

الصدام حتمي.. ولكن!

لو تحرر علماء السياسة من القيود التي تفرضها عليهم السلطات، واستخدموا عقولهم وثقافتهم وقدراتهم التحليلية لاكتشفوا أن هذا العقد سوف يشهد انهيار الكثير من المشروعات، وأهمها المشروع الصهيوني؛ فجيش الاحتلال الإسرائيلي استخدم كل قوته الغاشمة التي حصل عليها من أمريكا في إبادة الشعب الفلسطيني، لكن هذا الشعب صمد واستمر في مقاومته لتحقيق حلمه في تحرير أرضه.

تجربة المقاومة في غزة يمكن أن تضيء طريق الكفاح للشعوب المظلومة التي عانت من القهر والاضطهاد، وأثبتت أن العقول يمكن أن تبتكر الكثير من وسائل الكفاح، وأن القوة الصلبة لها حدودها؛ إذ يمكن استخدامها في الإبادة والتدمير، لكن إرادة الشعوب، وتصميمها على تحرير أرضها أقوى من كل ما أنتجته مصانع الأسلحة الأمريكية.

كراهية أمريكا وإسرائيل

إننا يمكن أن نلاحظ بوضوح أن كراهية إسرائيل وأمريكا تتزايد في كل أنحاء العالم، خاصة في الدول العربية، وأمريكا تدرك جيدا خطورة هذه المشاعر التي لم تتمكن الشعوب من التعبير عنها بسبب الخوف من السلطات العربية المستبدة، لكن الغضب يمكن أن ينفجر فجأة.

بالرغم من استكبار الإدارة الأمريكية وغرورها؛ فإنها تدرك الآن أن من مصلحتها كبح جماح النتن ياهو ووقف إطلاق النار، وإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، قبل انفجار الأوضاع، لكن تحيز أمريكا إلى إسرائيل ما زال يشلّ قدرتها على اتخاذ قرار يحمي النظم العربية التابعة لها من انفجار شعوبها.

لو امتلك علماء السياسة الحرية والشجاعة لأوضحوا للسلطات المستبدة أن الشعوب الساخطة ستنتفض قريبا لتغير واقعها الكئيب، بعد أن تزايد الفقر المرتبط بالتبعية لأمريكا، والخوف من قوة المستبدين الغاشمة، وأكّدوا لها -إن أرادت معرفة الحقيقة- أنه يمكنهم إجراء استطلاعات رأي عام علمية، يتم في ضوئها صنع قرارات حكيمة.

المصدر : الجزيرة مباشر