لبنان المنقسم المتعايش عندما يواجه الأزمات

يحيطون بشاشة عملاقة في لبنان تعرض خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله (الأناضول)

حملت الأيام الأخيرة من شهر مارس/آذار 2024 إلى لبنان تصعيدا غير مسبوق في العدوان الإسرائيلي. ويوم 27 من هذا الشهر كان الأكثر دموية والأعلى في عدد الشهداء اللبنانيين منذ “قرار حزب الله” فتح جبهة الحدود من جنوبي لبنان تضامنا مع غزة، بدءا من 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وخلال أقل من أربع وعشرين ساعة، كانت حصيلة العدوان خمسة عشر شهيدا، سبعة منهم في غارة على مركز إسعاف طبي مدني “للجماعة الإسلامية” ببلدة “الهبارية” بإقليم “العرقوب”، حيث للجماعة السنية التي تنتسب في نشأتها إلى “الإخوان المسلمين” حاضنة شعبية. وكانت قد أعلنت قرب نهاية أكتوبر مشاركتها في قصف مستعمرات شمالي فلسطين المحتلة. وهذا بعدما أصبح ملحوظا سماح “حزب الله” لها ولفصائل فلسطينية أخرى بالمشاركة في قتال المناوشات عبر الحدود تضامنا مع غزة.

قبل هذا اليوم الأكثر دموية، كانت آلة الحرب الصهيونية قد وسعت من نطاق ومدى ضرباتها داخل لبنان، لتصل إلى البقاع وبعلبك. كما شوشت إلكترونيا على حركة الملاحة بمطار بيروت الدولي، مما دفع الحكومة اللبنانية إلى تقديم شكوى للأمم المتحدة. وفي كل مظاهر هذا التصعيد وغيرها، ما يعيد الأضواء إلى تفاعل اللبنانيين مع هذا القتال الجاري منذ ما يقرب من ستة أشهر وتداعياته واحتمالات توسعته.

التنوع وضعف المركزية

بين القوة والضعف

يعلم من تردد على لبنان من قبل على مدى عقود بأن البلد/المجتمع قادر على النهوض وإعادة الإعمار ودوران عجلة الاقتصاد كلما أصابته النوائب والمحن والكوارث، ومنها العدوان التدميري الإسرائيلي المتكرر. وهذه خصوصية ربما ناجمة عن حيوية الفردانية والمجتمع المدني، وتنوع الجماعات. ويظل لبنان مع أهله متحررا من سطوة وقهر الدولة المركزية المتسلطة، ونسبيا مقارنة بمحيطه العربي.

كما في البال كون تنوع لبنان سياسيا ودينيا وطائفيا يظل مشكلة وعبئا مع ضعف المواطنة وتشوهها وغياب علمانية تفصل الدين والطوائف عن الدولة لتؤسس وتضمن هذه المواطنة.

لكن يتضح في الأغلب مع الأزمات قدرة لبنان وأهله على التعايش مع انقساماتهم هذه، وفي الخلفية والذاكرة والوعي الدروس القاسية لحرب أهلية ضروس دامت 15 عاما. وعلى الرغم من موجات الإعمار المتوالية منذ هذه الحرب، وكذا تضميدا لجراح الاعتداءات الصهيونية، فما زالت لليوم العديد من البيوت ومختلف الأبنية باقية على حالها تشهد على ما كان من دمار الاقتتال الأهلي.

وفي المحصلة لا يمكن النظر إلى لبنان المنقسم بدون رؤية وإدراك التعايش مع هذا الانقسام، بل والحرص الكامن عند الفرقاء على عدم الانزلاق إلى ما كان من اقتتال، وسرعة تطويق أحداث انتقال الخلافات السياسية/الطائفية/الإقليمية إلى لغة السلاح في الشوارع. وكما كان من قبل مع أحداث، لعل من أبرزها وأخطرها: 7 مايو/أيار 2008 و14 أكتوبر 2021.

حدود الخلاف

حول القتال مع غزة

هذه الحالة “الانقسام مع التعايش” تمتد اليوم وتترجم نفسها على هذا النحو إزاء الخلاف حول القتال تضامنا مع غزة وعواقبه. وكي تكتمل الصورة وتصبح أكثر دقة، فإن بين اللبنانيين أيضا من يهتم ويتعاطف مع قتال “حزب الله” في الجنوب. وهذا على الرغم من غلبة الهموم والشواغل المعيشية المشار إليها في مقال سبق نشره هنا بتاريخ 20 مارس/آذار 2024 بعنوان “لبنان المهم والأهم والخبز قبل الحرب”، بل ثمة من يراه كما يقول زعيم الحزب “حسن نصر الله” دفاعا استباقيا عن لبنان نفسه.

وبين اللبنانيين قطاعات تطفو بمثابة جزر لا تخطئها العين هنا وهناك وسط بحر من اللامبالاة هنا وهناك، فتبدى اهتماما ممزوجا بتعاطف مع جبهة الجنوب. تقاوم سطوة الانشغال بمكابدة مصاعب الحياة اليومية في ظل الأزمة الاقتصادية المعيشية. وتتركز بين أنصار “حزب الله” وطائفته “الشيعة”، لكنها تجاوزهما أيضا.

والإيجابي في هذا السياق أن حتى من يختلفون مع “حزب الله” واختياراته فتح جبهة الجنوب تحت عنوان “وحدة الساحات”، ولو بحذر وحساب، يدركون ويعبّرون عن قناعة وبخبرة التاريخ كون إسرائيل وصهيونيتها العنصرية الإجرامية الاستعمارية التوسعية طاقة عدوان لا ينفد. وتستهدف لبنان بدوره، سواء كان “حزب الله” أو لم يكن، وأيا كانت خياراته على الحدود.

حالة حرب باقية

مع ملفاتها المفتوحة

وهنا علينا ألا ننسى أن لبنان مازال في “حالة حرب”، لا يعترف بإسرائيل وبدون اتفاقات سلام أو ترسيم حدود نهائي معها، وفق واقع الحال، وبمقتضى أحكام القانون الدولي. ولم يغيّر من هذه الحالة كثيرا توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية عبر مفاوضات مباشرة برعاية أمريكية في أكتوبر 2022، من أجل استثمار الغاز في المياه الإقليمية قبالة سواحل لبنان وفلسطين. وكان العماد “ميشيل عون” قد أكد عقب الاتفاق وقبيل مغادرة قصر الرئاسة في بعبدا أن التوقيع لا يعني أي تغيير سياسي أو في طبيعة العلاقات مع تل أبيب.

ويخطئ من ينسى أن الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة لم تكن هادئة تماما قبل هجوم “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة التدميرية الصهيونية على غزة، وحتى عندما كان مقاتلو وعتاد “حزب الله” خلف نهر الليطاني.

وما كان قبل 8 أكتوبر 2023، أن الانتهاكات الجوية الإسرائيلية لسيادة لبنان لم تتوقف. كما احتفظ “حزب الله” بدوره بقدر محسوب ومنخفض من التوتر، على غرار إرسال مقاتليه لزارعة عبوة ناسفة في المناطق اللبنانية المحتلة أو إلحاق أضرار بالسور الحدودي الذي يقيمه الجيش الإسرائيلي وبمعدات تجسسه (المراقبة).

وقبل الحرب على غزة بنحو شهرين، وتحديدا في 8 أغسطس/آب 2023، أطلق وزير الحرب الإسرائيلي “غالانت” خلال زيارة للحدود التهديد المتكرر بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، محرضا على “حزب الله” وهو يرقب تطور قدرات الحزب الصاروخية مدى ودقة.

وأظن أن غالبية أهل السياسة في لبنان، على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم وارتباطاتهم الإقليمية والدولية، على وعي وإدراك بكون البلد لا يمكنه انتزاع نفسه من القضية الفلسطينية، وأن يذهب بنفسه مع همومه الاقتصادية والمعيشية بعيدا عن إكراهات أو إجباريات الجغرافيا والتاريخ. وعلى أجندة الساسة ومكونات “الدولة” في بيروت لليوم قضية وأعباء ومصير ما يقرب من ربع مليون لاجئ فلسطيني، معظمهم يعيش أوضاعا استثنائية مؤقتة، منذ نكبة 1948.

3 مستجدات على

خصوصية الحالة اللبنانية

ما يبدو جديدا ومختلفا هذه المرة بعد 7 أكتوبر 2023، أو الجولة بلغة المعارك، ثلاثة أمور تستحق الانتباه:

الأول.. أن لبنان بكل تنوعه وانقسامات أهله مثقل ومتعب، إلى حد كبير وبعيد، وعلى نحو ستكون أعباء أي توسعة للقتال في الجنوب إلى حرب شاملة أكثر كلفة وأعمق أثرا عليه، وليس على اقتصاده ومعيشة ناسه من الطبقات الشعبية والوسطى فحسب، بل وربما على التعايش بين اللبنانيين، وتحديدا القادة السياسيين الطائفيين.

وهذا الأمر تمتد محاذيره من عواقب استهداف العدوان الصهيوني للبلدات ذات الكثافة المسيحية في الجنوب إلى بيروت، وليس خافيا ما تنطوي عليه اتهامات ومزاعم تل أبيب “لحزب الله” وحلفائه حاليا باتخاذ بلدات مسيحية في الجنوب ساحة تحضير لعملياتهم.

والثاني.. أن تنامي المشاعر السلبية على نطاق أوسع وبين مختلف الانتماءات جراء تدهور الأحوال المعيشية، تجاه النخب السياسية المتنفذة ومعها “الدولة” مع استمرار غيابها وضعفها وترهلها بالمحاصصة الطائفية والفساد، أصبح يستهدف “حزب الله” وفي المقدمة، وهذا لأن الحزب تقريبا أصبح يُنظر إليه بأنه هو “الدولة”، بل والأخطر هو هذا النظر إلى قيادة الحزب ورموزها كمتواطئ مع فساد قيادات المحاصصة الطائفية التي تسكن الدولة، بل أصبح هناك من يذهب إلى القول بأن الحزب أصبح شريكا في هذا الفساد.

أما الأمر الثالث فيتعلق بما قد تسفر عنه سلبا، وعلى صعيد شعبي واسع النطاق، معاقبة لبنان وحصاره اقتصاديا وكل اللبنانيين، من جانب دول عربية خليجية طالما قالت في السابق بأنها سند ودعم للبلد واستقراره وللتعايش بين مكوناته، وإن أسهمت في صناعة الصيغة الطائفية القائمة منذ 1990 وأمراضها واستمرارها.

في مواجهة أزمة أكبر

من تضامن المهاجرين

ربما يصح القول بأن نوعا من السلوك الاجتماعي التضامني من اللبنانيين في المهاجر نحو أسرهم وعائلاتهم وأهالي ضياعهم يخفف بعض الشيء من وطأة الأزمة الاقتصادية المعيشية هنا أو هناك، لكن ثمة خطورة للزج بلبنان، في ظل أزمة معيشية طاحنة لا شفاء تاما لها بتضامن اجتماعي على هذا النحو، إلى حلبة تصفية حسابات الصراعات الإقليمية، بقطبيها الأبرز: السعودية وإيران، وفي اللعب المزرى المتواصل منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 على مجابهات بواجهات وخلفيات شيعية/سنية.

وأعتقد بعد معايشة استمرت ثلاثة أشهر للحياة اليومية في لبنان أن على المرء خشية الضرر الذي قد يلحق بعلاقات اللبنانيين بالعرب، ومن ثم إضعاف روابط العروبة عند عموم أهله.

ومن الحماقة التي ستقود حتما إلى حيث لا ينفع الندم ألا يسود العقل في التعامل مع بيروت، وألا يجد لبنان المساندة الواجبة عربيا في مواجهة هذه الأزمة الاقتصادية، وإزاء ما هو مقبل عليه من استحقاقات بعد حرب غزة، بما في ذلك احتمال عدوان إسرائيلي أوسع، ومفاوضات أكثر صعوبة تبدو لا مفر منها لإعادة ترتيب أوضاع الحدود، وكذا موضع “حزب الله” في الدولة بلبنان.

المصدر : الجزيرة مباشر