مشاهد النهاية لم تعد هوليودية

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

الكثير من الدراما العالمية بقيت نهاياتها مفتوحة، كثير من الروايات تعمد كتابها ذلك، كثير من أفلام هوليود الأمريكية كانت تهدف إلى إيلاء النهايات لاجتهادات المشاهدين، كل مشاهد يكتب من ذاكرته النهاية التي يتخيلها، ليس شرطًا إسدال الستار بالقبلة بين البطل والبطلة كما في أفلام الأبيض وأسود المصرية، أو أن تكون النهاية دموية كما في مسلسلات البلطجة الرمضانية، قد يكون هناك جزء آخر من العمل السينمائي يتم إنتاجه فيما بعد، إلا أن النهاية ليست الآن.

قد يكون هدف النهاية المفتوحة إطالة عمر البطل، كما في الأفلام الهندية بشكل خاص، قد يكون الهدف التربح والتكسب كما في الممارسات الأمريكية عمومًا، قد تكون الأهداف سياسية خبيثة، كما في الممارسات البريطانية عبر التاريخ، قد يكون ذلك لأسباب صهيونية تعود بالفائدة على المدى البعيد، كما في السلوك الفرنسي، أو أسباب سيكولوجية، حتى لو اصطدمت بالعامل الأخلاقي والإنساني، كما في الحالة الألمانية.

فيلم إسرائيل

هوليود تطل برأسها الآن على المشهد في الشرق الأوسط، المخرج الهوليودي يعي أن النهاية حتمية، لم يعد هناك مكان للنهايات المفتوحة، الإيقاع السريع للعصر جعل المشاهد لا يحبذ الانتظار، ينتقل من دار سينما إلى أخرى على الفور، كما هو حال مشاهداته التلفزيونية، إلا أن المخرجين والمؤلفين معً لا ينصاعون لرغبات المشاهدين في هذه المرحلة، على الرغم من الاحتجاجات والمظاهرات الضخمة خارج أسوار دور العرض، وعلى الرغم من الخسائر التي تصيب المنتجين بشكل عام.

هكذا أيها السادة، هو حال فيلم “إسرائيل” الذي تم إنتاجه منذ عام 1917 بوعد بلفور، أو عام 1948 بإنشاء الكيان على أرض الواقع، وظلت النهاية مفتوحة أمام المشاهدين حتى الآن، على الرغم من أنها سُجّلت بأحرف من نور منذ آلاف السنين بالكتب المقدسة، وكُتبت في روايات ومؤلفات أمريكية وغربية عديدة خلال العقود السبعة الماضية، وتوقعها المؤرخون والمحللون السياسيون طوال الوقت، إلا أنها المكابرة والمعاندة التي اتسم بها صناع القرار هنا وهناك، في إطار حالة من رفض الاعتراف بالفشل لا أكثر ولا أقل.

المكابرون والمعاندون معًا، وفي محاولة لإطالة عمر الكيان، اخترعوا ما يعرف باتفاق أوسلو، الذي وقعه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصيًّا، قبل أن يعترف شخصيًّا أيضًا، بأن الخطأ كان كبيرًا، وأنه ندم على ذلك أشد الندم، ذلك أن هذا الخطأ قد أطال من عمر النهاية، أو عمر الكيان 40 عامًا أخرى دون مقاومة، كانت كفيلة بأن يتيهوا في الأرض مرحلة أخرى من مراحل التيه المعتادة، إلا أنها في نهاية الأمر إرادة الله، انتظارًا لنهاية أشد بأسًا، سوف تحمل بالتأكيد من الدروس والعظات الكثير.

هذه هي الحقيقة المؤكدة، التي قد لا يدركها الكثير من المشاهدين والمتابعين للفيلم الشرق أوسطي العالمي “إسرائيل”، وهي أن الفيلم انتهى إلى غير رجعة، إلا أن المؤلفين والمخرجين والمنتجين وصناع السينما بشكل عام يرفضون إعلان ذلك، في عملية تأجيل فاضحة للدفن ليس أكثر، ذلك أننا أمام جثة من النوع العفن، من الطبيعي أن تنتشر رائحتها في كل الأجواء قبل أن تتوارى في التراب، خصوصًا أن التراب سوف يلفظها، ومهما كانت الجنازة حارة، فإن الميت من النوع العاقر المسمم، وليس من السهل حمله أو مجرد الاقتراب منه.

لو أننا تابعنا بدقة المؤتمرات الصحفية لمسؤولي الكيان الإسرائيلي، سوف نكتشف أننا أمام زعماء مافيا تجمعوا من كل بقاع العالم بعد طردهم لسوء السلوك، وكان من المهم عدم قبولهم في المنطقة. ولو أننا تابعنا اجتماعاتهم فيما يعرف بمجلس الوزراء أو مجلس الحرب، لأدركنا أننا أمام كيان فاشي لا ينبغي أبدًا الوثوق به أو التعامل معه، ولو أننا تابعنا تصريحاتهم وتهديداتهم لتأكدنا من خطورتهم على العالم، وليس على المنطقة فقط.

كيان في مراحله الأخيرة

هو كيان يلفظ أنفاسه الأخيرة باعترافاتهم هم، من خلال تحليلات سياسييهم، ومن خلال نبوءات مؤرخيهم، ومن خلال عمليات الهروب اليومية لمواطنيهم، وهو السبب الرئيسي في حالة التوتر والهلع التي تجعلهم يقتلون بلا هوادة في صفوف الأطفال الفلسطينيين والنساء العزل، الذين لا حول لهم ولا قوة، تنفيذًا لتعليمات من أسفار أشعياء، ما أنزل الله بها من سلطان، تأمرهم بإبادة الحرث والنسل، والحجر والبشر، والحيوان والجماد، وسط صمت أو نفاق عالمي غير مسبوق في التاريخ.

الغريب في الأمر، والمؤسف في الوقت نفسه، أنه على الرغم من وضوح رؤية النهاية في هوليود بالولايات المتحدة الأمريكية، مرورًا بأحفاد بلفور في بريطانيا، وديغول في فرنسا، وهتلر في ألمانيا، وحتى مجلس حرب العصابات الصهيونية، فإن أصحاب الشأن العرب، هم الأكثر استعصاءً على فهم أبعاد الموقف، لا يحاولون المشاركة ولو بسطر واحد في كتابة مشهد النهاية، وقد تكون الأسباب في ذلك كثيرة، ومن أهمها أنهم يدركون أن النهاية حينما يسطرها المخلصون المجاهدون لن ترحم أحدًا، أو بمعنى آخر: لن تكون هناك استثناءات.

هي إذن رسالة إلى من يستعصي على عقولهم الفهم والاستيعاب، وهي أن تاريخ المنطقة إذا كان قد سطره الاستعمار يومًا ما، وما زال يمارس الهيمنة نفسها حتى الآن، فإن المستقبل يجب أن يسطره أصحاب الأرض أو أصحاب الإقليم، أيًّا كانت المصاعب، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن التحرر الوطني في حد ذاته يستحق الكثير من العناء والتضحيات، مع إدراك أننا جميعًا، بشكل أو بآخر، في حاجة إلى تحرر وطني، وليس الشعب الفلسطيني فقط، وهو ما يمكن أن يجعل من مشهد النهاية علامة فارقة في التاريخ العربي، بمنأى عن نهايات هوليود التي أصبح العالم يلفظها، ولم تعد تجد سوقًا رائجة إلا في العقل الرسمي العربي.

المصدر : الجزيرة مباشر