إيران.. وكأن ردا لم يكن!

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

ستدخل الضربة أو شبه الضربة العسكرية التي نفّذتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد الكيان الصهيوني قبل أيام تاريخ الصراع العسكري من باب الهزل والعبث والاستعراض والتمثيل الذي يصلح لتدشين مصطلحات مثل “الحرب المسرحية” أو “فن تمثيل الحرب” أو “اللا ضرب في اللا حرب”، حيث أطلق الحرس الثوري الإيراني عشرات المسيّرات والصواريخ نحو الكيان الصهيوني الذي أعلن أنه تم اعتراض 99% منها وبنسبة ساحقة خارج الحدود مما جعل محصلة خسائر إسرائيل البشرية والمادية صفرًا كبيرًا.

جاءت الضربة غير الموجعة من الأراضي الإيرانية ضد إسرائيل لأول مرة منذ قيام “الثورة الإسلامية” سنة 1979، وجاءت ردًا على قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتوجيه ضربة جوية للقنصلية الإيرانية في دمشق يوم الأول من إبريل/نيسان الجاري حيث اغتيل 7 من “الحرس الثوري” كانوا مجتمعين في مقر القنصلية الإيرانية بالعاصمة السورية بينهم العميد محمد رضا زاهدي، ونائبه محمد هادي رحيمي.

الضربة الضرورة

وبينما تنشغل دولة الاحتلال بعجزها عن فرض السيطرة على قطاع غزة، فإن توجيه ضربة لإيران كان ضرورة لأسباب عدة يختلط فيها الوضع داخل الكيان الصهيوني وتحالفات الائتلاف الحاكم وإخفاقاته بالمتغيرات الخارجية وموقف المجتمع الدولي من العدوان الإسرائيلي المدمر والمستمر على قطاع غزة منذ أشهر ستة، ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي:

أولًا: احتاجت إسرائيل للتصعيد مع إيران للفت الأنظار بعيدًا عن مأساة العدوان على غزة التي حظيت بتعاطف عالمي غير مسبوق حتى من الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرئيس لإسرائيل بعد ارتفاع أعداد الضحايا لنحو 35 ألف شهيد وتجاوز المصابين نحو 75 ألفًا غير الدمار والخراب الذي حلّ بأرجاء القطاع المنكوب كله.

ثانيًا: تشكل القدرات العسكرية لـ”حزب الله” في لبنان تهديدًا واضحًا ومستمرًا للدولة العبرية، وفيما يُنظر للحزب كونه “وكيل إيران” في المنطقة فإن توجيه ضربة للراعي الرئيس كان أمرًا لازمًا لإسرائيل لتحقيق ردع للذراع الإيرانية القابعة شمال فلسطين التاريخية التي يقوم بعمليات استنزاف للاحتلال منذ سنوات.

ثالثًا: بلغ التباين في المواقف بين واشنطن وتل أبيب مدى غير مسبوق وصل لحد إطلاق التصريحات العلنية عن الخلاف بسبب فداحة “فاتورة” الدم الفلسطيني وتدمير معظم الأبنية، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وتأثيرات ذلك في شعبية الرئيس الأمريكي “جون بايدن” وفرص إعادة انتخابه نهاية العام الحالي، وكان لازمًا أن يبحث “نتنياهو” عن استعادة الزخم للعلاقات الوثيقة بين واشنطن وتل أبيب ولا شيء أكثر نجاعة من التوحد ضد العدو المشترك القابع في إيران خاصة بعد أن امتنعت واشنطن عن استخدام حق النقض في مجلس الأمن، كما اعتادت ضد قرار يطالب بوقف إطلاق النار وبزيادة المساعدات لأهل قطاع غزة الذين نزح معظمهم من ديارهم، وباتوا أسرى الخيام والعراء.

رابعًا: فقدت إسرائيل انفرادها بالرواية حول الصراع مع العرب، وكان لا بد من عمل يعيد إسرائيل لمربع الضحية لتستعيد سرديتها التي أتقنتها منذ عقود التي تدعي فيها المظلومية في الشرق الأوسط، وليس أفضل من عمل عدائي مستفز ضد إيران يستلزم ردًا من قادتها الذين يعادون الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تم بالفعل.

خامسًا: الوضع السيئ لرئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو” والمظاهرات اليومية ضده، وتراجعه في استطلاعات الرأي والمطالبات المتزايدة باستقالته جعلته يلجأ لتكتيك “القفز للأمام” عبر تجاهل الانتقادات وخلق حالة جديدة تجمع الرأي العام حوله كقائد تتعرض بلاده للتهديد ويجب الالتفاف حوله، ولا يمكن تصور أن “نتنياهو” أمر بضرب القنصلية الإيرانية دون أن يتوقع ويرغب في أي رد فعل إيراني يجعله في حالة حرب، وهي الحالة التي يحتاجها بشدة بعد تراجع شعبيته ويقينه أنه سيغادر منصبه في اليوم التالي لوقف الحرب.

سادسًا: فشل جيش الاحتلال رغم الدمار والخراب الذي أحدثه في تحرير الأسرى الإسرائيليين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكان لزامًا البحث عن انتصار بديل يلهي الرأي العام ولو مؤقتًا.

الرد سيكون حاسمًا

وقد قامت إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية بينما يضيق الخناق حول نتنياهو، وتتقلص خيارات المناورة أمامه بعد ابتعاد واشنطن عنه لأسباب تخص حساباتها الداخلية والخارجية.

وبعد قصف القنصلية الإيرانية سارعت طهران عبر مستويات قيادية عدة بالتوعد برد حاسم ضد الدولة العبرية، فقصف القنصلية الإيرانية بالطائرات الإسرائيلية هو اعتداء مباشر على أراض إيرانية إذ تعتبر الأعراف الدبلوماسية وقوانين استضافة البعثات أن السفارات والقنصليات أراض تابعة للدولة المستضافة.

حبس الشرق الأوسط أنفاسه على وقع التصريحات النارية العنترية التي صدرت من القادة الإيرانيين عقب الهجوم على القنصلية، وفي محاولتها لعدم اتساع رقعة الصراع تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية سرًا وعلنًا لتهدئة التوتر بين طهران وتل أبيب، ونصحت طهران بعدم الرد، لكنها أيضًا سخرت إمكانياتها وقواعدها العسكرية وحلفاءها في الشرق الأوسط لإفشال الضربة الإيرانية وصدها، لتصبح بلا جدوى.

نتائج اللاضربة

وقد بلغ ما أطلقته إيران تجاه إسرائيل 185 مسيّرة و36 صاروخ “كروز”، و110 صواريخ أرض-أرض، وباستثناء قاعدة عسكرية إسرائيلية واحدة في النقب لم يصل إسرائيل أو يصبها شيء من هذا الكم الكبير نسبيًا.

ويمكن تلخيص نتائج الضربة الإيرانية غير المؤثرة عسكريًا على إسرائيل فيما يلي:

1-نجحت اللاضربة الإيرانية ضد إسرائيل في احتلال منصات الإعلام عبر العالم، وشغلت غرف الأخبار وأجندات الساسة عبر العالم، فيما تراجعت أخبار غزة ومفاوضات الهدنة أو وقف إطلاق النار والوضع الإنساني.

2- لم تستهدف إيران أي قيادة إسرائيلية رغم نجاح إسرائيل في التخلص من 7 قيادات عسكرية كبيرة في الحرس الثوري الإيراني كانوا مجتمعين في مقر القنصلية الإيرانية، وهي خسارة فادحة لطهران.

3- فور قيام إيران بإطلاق مسيّرات وصواريخ باتجاه إسرائيل سارع الرئيس الأمريكي بإعلان التزام بلاده بأمن إسرائيل شفويًا بينما تكفلت القوات الأمريكية المتمركزة في الشرق الأوسط عمليًا بصد معظم الهجمات الصاروخية والمسيّرات قبل وصولها لإسرائيل، لتثبت واشنطن أنها الحامي الرئيس لإسرائيل عمليًا مهما وقع بينهما من خلاف ظاهري.

4- الحاصل أن الدول الغربية التي انتظرت شهورًا من العدوان على غزة حتى تعدل من مواقفها وتنتقد إسرائيل سارعت لإعلان تأييدها للكيان الصهيوني والتزامها بأمنه بمجرد تلقيه ردًا ضعيفًا بحساب النتائج من الحرس الثوري الإيراني ما أعاد الدفء لدولة المشروع الاستعماري بعد أن أصبحت شبه معزولة في المجتمع الدولي على خلفية العدوان على غزة.

5- للمرة الأولى تجد دول عربية نفسها مضطرة لإسقاط مسيّرات أو صواريخ تعبر أراضيها تجاه الكيان الصهيوني، وهو وضع معقد ما كان ينبغي الوصول إليه.

وأخيرًا تجب الإشارة أنه وبرغم وجود وجهات نظر تعتبر أن مجرد إطلاق صواريخ من الأراضي الإيرانية تجاه إسرائيل هو تغيير لمعادلة الردع وكشف لمواطن الضعف والقوة في المنظومة العسكرية الإسرائيلية، فإن الحاصل أيضًا أن دولًا عربية اضطرت لإسقاط الصواريخ الإيرانية التي عبرت فوق أراضيها دون تنسيق كاف، وأن الضجة التي أحدثتها إيران بردها المتهافت على إسرائيل لا تتناسب أبدًا مع نتائج الضربة وفق معظم الحسابات حيث إن المحصلة النهائية تشي بوضوح أن رد إيران كأن لم يكن.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر