“فوبيا الخلافة” بعد 100 عام على سقوطها

هل تكون المنظمة هي البديل للخلافة؟ (منصات التواصل)

 

رغم مرور مئة عام على سقوط الخلافة (مارس/آذار 1924) فإنها لا تزال تمثل “فوبيا” للغرب وتابعيه في الشرق، لم ينس هذا الغرب بامتداداته التاريخية والعقدية تاريخ تلك الخلافة في أيام مجدها، وكيف أنها مثلت دولة إسلامية ممتدة قال حاكمها يوما للسحابة في السماء “شرّقي أو غرّبي فأينما أمطرت فسوف يأتيني خراجك”، كما لم ينس هذا الغرب اليد العليا لتلك الخلافة على مقاليد السياسة الدولية لقرون طويلة كان الغرب نفسه يرزح تلك حكم إمبراطوري مستبد يتساند على طبقة النبلاء ولا يعير اهتماما لعموم الشعوب.

مع مرور مئة عام على غيابها تتصاعد “فوبيا الخلافة” في الغرب، ويُلاحَق كل من يذكرها بخير، أو يفكر في استعادة وحدة المسلمين تحت أي شكل عصري كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية التي هي اتحاد بين 50 ولاية، أو الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة غالبية سكانها من المسيحيين، ويوصف بأنه نادٍ مسيحي، ولذلك فقد رفض حتى الآن عضوية تركيا ذات الأغلبية المسلمة.

“فوبيا الخلافة” لم تقتصر على الغرب بل انتشرت في الدول العربية والإسلامية ذاتها، وزاد من هلعها تبني تنظيم إرهابي لفكرة الخلافة هو تنظيم داعش (الذي سيطر على بعض المحافظات العراقية والسورية وأقام فيها ما وصفه بدولة الخلافة، ونصّب زعيمه خليفة، وراح يهدد العديد من الدول بالوصول إليها وإقامة ولايات تابعة لخلافته فيها)، وقد شكّل الغرب ومعه العديد من الدول الإسلامية تحالفا دوليا نجح في تفكيك دولة داعش في معظم المناطق التي سيطر عليها وإن كان التنظيم لا يزال ينشط في مناطق أخرى، مستغلا العداء الغربي للقضايا الإسلامية ودعمه الفج للمشروع الصهيوني وتبنيه للأفكار الشاذة التي تخالف مبادئ الإسلام، والسعي لفرضها في بلاد المسلمين.

مظهر الوحدة الإسلامية

تسللت “فوبيا الخلافة” إلى قطاعات واسعة من عموم المسلمين من ضحايا التلوث الإعلامي والثقافي المعادي للخلافة فكرة وتطبيقا تقليدا لموقف الغرب، حتى أن البعض حين يريد انتقاد جمعية أو حزب إسلامي يتهمه بأنه يريد استعادة الخلافة، وكأن ذلك سبة أو جريمة تستحق الإقصاء السياسي والسجن المؤبد!

مثّلت الخلافة على مدار أكثر من 13 قرنا المظهر الأبرز للوحدة الإسلامية بغض النظر عن فترات القوة أو الضعف التي مرت بها، وكانت ركنا ركينا في النظام الدولي، بل كانت القوة العظمى في فترات طويلة بجوار إمبراطوريات أخرى شرقية وغربية، لكنها لم تكن أقوى من السنن الكونية التي لا تحابي أحدا، فحينما زادت عناصر ضعفها على عناصر قوتها، تحللت تدريجيا، وأصبحت رجل أوروبا المريض الذي ينهش لحمه كل قوي، حتى أطلق أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية رصاصة الرحمة عليها في 3 مارس 1924 الموافق 27 رجب 1342 هجرية.

فلسطين مقابل سداد الديون

التكالب الدولي على فلسطين اليوم، والعدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة المدعوم عالميا وإقليميا، والخذلان العربي الإسلامي للأشقاء، وتركهم يواجهون القصف والقتل والتجويع حتى الموت دون قدرة على إنقاذهم يُذكرنا بموقف عظيم للخلافة رغم ضعفها في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، فقد رفض السلطان منح الوكالة اليهودية صكا لليهود لتأسيس دولة لهم في فلسطين، وأصدر عام 1876 مذكرة قانونية بعنوان “مذكرة الأراضي العثمانية” أو كما هي في اللغة العثمانية “عثمانلي أراضي قانوني” منع بمقتضاها بيع الأراضي العثمانية وخاصة الفلسطينية لليهود منعا باتا، وجهز وحدة شرطة خاصة للقيام بهذا الأمر ومتابعته، كما خصص السلطان أوقاتا محددة وقصيرة لليهود الراغبين في زيارة فلسطين.

كان السلطان يرفض مقابلة تيودور هرتزل لمعرفته بنياته ومشروعه، لكنه وافق  بعد وساطة سياسية على هذه المقابلة في يونيو/حزيران 1896، إذ طلب هرتزل من السلطان الموافقة على هجرة اليهود إلى فلسطين مقابل سداد جميع ديون الدولة العثمانية وحتى تزويد الميزانية والخزينة العثمانية بفائض عن حاجتها، لكن السلطان رد بأنه لا يستطيع بيع شبر واحد من أراضي فلسطين، وقال قولة مشهورة “والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبر واحد من فلسطين”، ولعل إدراك القوى العالمية هذا الموقف التاريخي والعقدي، والقابل للتكرار حال عودة وحدة المسلمين وقوتهم هو ما يفسر هذه “الفوبيا” من فكرة الخلافة.

نحو اجتهاد عصري

التشويه الكبير للخلافة فكرا وممارسة دفع بعض الإسلاميين الذين كانت تمثل الخلافة حجر الزاوية في مشروعهم إلى التنصل منها خشية اتهامه بـ”الدعشنة”، إذ تحرص حملة التشويه العربية والعالمية على ربط أي متحدث عن وحدة المسلمين والخلافة بتنظيم داعش بهدف حرقه معنويا، كما أنهم يطرحون عبر هذا التشويه أشكالا غريبة للخلافة تتركز حول العبيد والإماء، وحريم السلطان، والسيف والسكر إلخ، بالتأكيد كانت هناك بعض المظاهر السلبية في حكم الخلفاء والسلاطين، لكن الجوانب الإيجابية كانت هي الأكثر، ويكفي كما قلنا الحفاظ على وحدة العالم الإسلامي وقوته ومنعته، وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوعه، وصد حملات الأعداء.

من واجب الجماعات الإسلامية التي تتمسك بفكرة الخلافة أن تذب عنها تلك الأكاذيب، لكن الأهم هو أن تقدّم شكلا عصريا للخلافة، يحقق وحدة المسلمين، وقوتهم ومنعتهم، وقد قدّم المفكرون المسلمون اجتهادات مهمة، لعل أبرزها ما قدّمه الفقيه الدستوري المصري عبد الرازق السنهوري في رسالته للدكتوراه بعنوان الخلافة، إذ طرح فكرة عصبة الأمم الإسلامية التي يلحق بها مجلس ديني مستقل للنظر في القضايا الدينية، كما دعا المفكر الراحل الدكتور محمد عمارة إلى تطوير منظمة التعاون الإسلامي لتكون هي البديل العصري للخلافة، والأمر يحتاج إلى مزيد من الاجتهادات في هذا الصدد.

المصدر : الجزيرة مباشر