أيكون “أرون يوشنيل”.. كافرا مخلدا في النار؟!

المتظاهرون يحملون لافتات أمام القنصلية الإسرائيلية خلال الوقفات الاحتجاجية على ضوء الشموع لتكريم تضحية آرون بوشنل بنفسه من أجل السلام في شيكاغو (الاناضول)

من حقك أن تقف فوق تلال العجائب والمتناقضات متسائلًا: أيكون “أرون بوشنيل” الذي أحرق نفسه اعتراضًا على حكومته التي تدعم الإجرام كافرًا مخلدًا في النار؟ ويكون فلان وفلان من القساة الغلاظ الأكباد الذين يحاصرون أهل غزة ويمنعون عنهم -حتى- دفقات التعاطف الشعبي مسلمون مؤمنون ناجون في الآخرة لمجرد أنهم يحملون بطاقات مكتوب فيها: (الهوية مسلم)؟ لا ريب أن هناك خللًا في فهم الشريعة يجعل منا كائنات قابلة لجمع التناقضات الصارخة في جوفها، ولا ريب كذلك أن شريعة الله تعالى عدل كلها ورحمة كلها، وما خرج عن العدل والرحمة إلى ضدهما فأحدث التناقض في المفاهيم والمواقف ليس من الشريعة، وإن أُدْخِل فيها بالتأويل الفاسد.

لا عقاب قبل قيام الحُجَّة الرِّسالِيَّة

ثَمَّ قاعدة مستمرة مستقرة، تَوَلَّى القرآنُ تقريرها في كثير من الآيات، وهي أنّه لا حساب ولا عذاب على أحد من خلق الله إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه، وقيام الحجة الرسالية عليه يعني أن تبلغه دعوة الإسلام على وجهها الصحيح، فمن لم تبلغه دعوة الإسلام، أو بلغته على وجه غير صحيح، فليس واقعًا تحت طائلة المؤاخذة، ولو لم يكن في زمان فترة، لأنّ الفترة ليست بذاتها مناطًا للحكم، وإنّما هي ظرف من الظروف التي تحتمله، أمّا مناط الحكم فهو التكليف، ولا تكليف إلا مع بلوغ الحجة، وعلى هذا فإنّ كثيرًا من الناس الذين يعيشون في غير ديار الإسلام، الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام أصلًا، أو بلغتهم على غير وجهها الصحيح من خلال كتابات المستشرقين ووسائل الإعلام المضللة معذورون كأهل الفترة سواء بسواء، قال تعالى: {لِئَلّا يكونَ للناسِ على اللهِ حُجّةٌ بعد الرّسُل} وقال: {‌وما ‌كُنَّا ‌معذِّبين ‌حتى نبعثَ رسولًا}، وقال: {ولو أنَّا أهلكناهم بعذابٍ مِن قَبْلِه لقالوا ربَّنا لولا أرسلتَ إلينا رسولًا فنَتَّبِعَ آياتك}، وقال: {وما كانَ ربُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حتى يبعَثَ في أُمِّها رسولًا}.

ويترتب على هذه الحقيقة سلسلة من المفاهيم الباعثة، أولها: أنّ المسؤولية تقع على الأمة الإسلامية، لأنّ الإسلام حقٌّ لهذه الشعوب على المسلمين، وتفريطُ المسلمين في أداء هذا الحق -على أيّ وجه من وجوه التفريط- تضييعٌ للأمانة، ثانيها: أنّه يجب التفريق بين الشعوب والأنظمة، فأمّا الأنظمة وما يدعمها من مؤسسات منتفعة فهي التي يقع منها الحرابة، وأمّا الشعوب فأغلبها واقع تحت مظالم الأنظمة، ثالثها: أنّ هذا هو السبب في أنّ الفتح الإسلاميّ لم يكن يستهدف الشعوب، وإنّما كان يستهدف الجيوش والأنظمة التي وراءها؛ بدليل أنّ الفاتحين كانوا إذا فتحوا بلدًا قالوا للناس: لا إكراه في الدين، وأنّ العلماء فرقوا بين مُوجِب القتال وموجِب القتل، فلا موجِب للقتل إلا الحرابة، رابعها: أنّ وصف الشعوب بالكفر إنّما لترتيب الأحكام الدنيوية عليها، أمّا الآخرة فعلمها عند الله.

هل يخلَّد المنتحر في النار؟

ليس كلُّ من قتل نفسه كافرًا مخلدًا في النار، إنّما يكفر ويخلد في النار من اقترن بانتحاره اعتقاد كفريّ، أمّا فيما عدا ذلك فهي كبيرة من الكبائر، ويكون فاعلها في مشيئة الله تعالى، لذلك وجدنا الإمام مسلم -بعد أن أورد الأحاديث القاضية بخلود المنتحر في النار- أورد هذا الحديث الرائع: عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ -قال: حصن كان لدوس في الجاهلية- فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نَبِيِّهِ، فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟ قال: قيل لي: ‌لن ‌نصلح ‌منك ‌ما ‌أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم وليديه فاغفر»، ولم يكن ترْك النبيّ للصلاة على من قتل نفسه دليلًا على كفره؛ بدليل أنّه ترك الناس يصلون عليه.

الإنسانية إلى أين؟

ليس للإنسانية إلا الإسلام، ولا يصلح لها إلا الإسلام، ولقد تفوقت الحضارة المعاصرة وبلغت المنتهى في التقدم الماديّ، لكنّها تعوقت في كل ما يتعلق بالإنسان؛ لأنّها من أول الطريق وضعت الإنسان في موضعين متناقضين بعيدًا عمّا فطره الله عليه، فأمّا من الناحية النظرية التصوّرية فقد نحتت له من الخيال مركزًا ميتافيزيقيًّا لا صحة ولا وجود له؛ إذْ جعلته سيد الطبيعة، فلا وصاية عليه من الميتافيزيقا! وأمّا من الناحية الواقعية فقد انحطت به إلى دركات أسفل من البهائم؛ بتكريس الجنس والشهوة، وتمحيض اللذة في المادة البليدة والدنيا الفانية، غير أنّ هذا لم يستقم مع فطرة الإنسان.

وها هي الإنسانية اليوم تنتفض، ويضربها الزلزال في عقر دار حضارتها، ها هي تصحو من سكرتها وتفيق من غفوتها، لقد ارتكبت الصهيونية الصليبية الماكرة الحمقاء -ومن عَجَبٍ أن تجمع بين المكر والحمق- ارتكبت من الأفعال ما أدّى إلى انكشاف السوأة وافتضاح العورة، فها هي الشعوب ترى حضارتها على حقيقتها، فتصاب بالدهشة والذهول، وما ذاك إلا لما فوجئت به من البون الشاسع بين ما أعلنته حضارتها من قيم إنسانية، وما ترتكبه أنظمتها من فظائع، يزيد من فظاعتها اجتهاد الإعلام في قلب صورتها، وكانت أحداث غزة بمثابة الشوكة التي وخزت المارد فأثارته وأخرجته من القمقم، والمارد إذا خرج من القمقم فإنّه لا يعود إليه حتى يعود اللبن في الضرع.

الواجب الحقيقيّ

فالواجب على المسلمين هو التعاطي الإيجابي مع الظواهر الإنسانية، وليس الانكفاء على العقد الفكرية المصاغة من الأوهام، الواجب هو أن نعمل على محورين: الأول: إحياء ضمائر المسلمين، الثاني: دعوة أصحاب الضمائر من غير المسلمين إلى الإسلام، والله المستعان.

 

المصدر : الجزيرة مباشر