الأصنام وصانعوها وإدمان العبودية

(الفرنسية)

يقول نيتشه “عاشت الإنسانية حتى الآن على عبادة الأصنام؛ أصنام في الأخلاق، وأصنام في السياسة وأصنام في الفلسفة”، وهو قول خطأ جملة وتفصيلًا، فالإنسان لا يكون إنسانًا أبدا إلا بامتلاك “كل” وعيه وكامل إرادته وحريته بلا أي انتقاص ورأسه مرفوعة، أما العبودية فهي وحدها التي “تختار” إدمان الإنحناء أمام الأصنام بأنواعها.

لا أحد يصبح مدمنًا فجأة أو بدون إرادته فيسبق ذلك “اختيار” الإدمان وخداع النفس بأنه “سيمنحه” حياة أفضل ولو مؤقتًا وسيهرب مما ينغّصه ويعطيه شعورًا “مزيفًا” بالرضا والانتصار.

وهو ما يفعله مدمنو العبودية في كل زمان ومكان وشعارهم غير المعلن “لو لم تكن الأصنام موجودة لاخترعناها”، وهم كثيرون يقررون بكامل وعيهم وبإرادتهم التامة صنع أصنام لعبدونها ويتنازلون لها بكل “فرح” ورضا وتسليم عن أعمارهم وعقولهم ومشاعرهم “ليحركونهم” بلا أدنى تفكير بالشكر أو الاحترام كيفما يشاؤون، وهل يشكر أو يحترم أحد الأشياء؟

تقديس وغفلة

نتوقف عند ظاهرة ألتراس الفنانين وعباداتهم كأصنام لن تتكرر “وتقديسهم” وإطلاق عليهم ألقاب تمجدهم وتنبهر بهم، والدفاع عن “زلاتهم” وهفواتهم باستماتة وشراسة وإضفاء العبقرية والتفرد والتغني بأي شيء يفعلونه وكأنهم كانوا “ينتظرونه” ليمنحهم مبررًا للحياة تقديس بعض الممثلين وإطلاق ألقاب عليهم كالزعيم والأسطورة وغيرها والتعامل معهم بمنطق أنا ملكي أكثر من الملك، “وتعمد” الغفلة عن تحقيق الذات وتوهم ذلك بعبادة الصنم.

وينساقون وراء اللجان الإلكترونية التي يستخدمها معظم الفنانين والمشاهير للترويج لأنفسهم وللتقليل من شأن منافسيهم، ويقحمون أنفسهم في معارك “لا” تخصهم وتستنزف طاقاتهم، ويضيعون أوقاتًا غالية من أعمارهم في اللهاث فيمن لا يرونهم ولا يشعرون بوجودهم في الحياة إلا كأرقام وتابعين “ودراويش” لا حيلة لهم أمام أصنامهم، ونتذكر كاتب “يحلو” لبعض الناس وصفه بـ”العراب” وصف في لقاء على اليوتيوب المعجبين به بأنهم كالدراويش لأنه كما قال عن نفسه يكتب كلامًا عاديًا وينبهرون به!

يطبق صانعو الأصنام الأغنية الشهيرة التي بالطبع لم ينفذها المطرب والملحن وكاتب كلماتها، لأنها “كلام أغاني”، تقول: “أحبه مهما أشوف منه ومهما الناس قالت عنه”، فيصر مدمنو العبودية على إغلاق آذانهم عن “حقائق” تنال من أصنامهم في السياسة والثقافة والفن والرياضة، “ويمنعون” أنفسهم من التفكير فيها ولو لثانية، “ويختارون” منحهم التوقيع على شيك بلا أرقام “ليتفضلوا” هم بكتابة ما يريدون متى وكيف يشاؤون!

ويبالغون في حب أشخاص أحياء وأموات أو أفكار ويجعلونها “أغلى” من عقولهم، ويتصدون بالحماس الزائد للدفاع عن أخطائهم وتصويرهم كآلهة لا تخطئ، ويجعلون الأخطاء مزايا لا يحلم بالوصول إليها من يهاجمونهم.

يقول أفلاطون “نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر، ومتعصبون إذا لم نرد أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر”.

من الأصنام الجديدة رفض توجيه أي انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي وترديد جملة غريبة “إذا لم يعجبك ما يُقال لا تعارض واحتفظ برأيك لنفسك”!

هروب ويأس

نحترم إرادة الجميع ونحذر من خطأ شائع جدا وهو الاحتياج النفسي لوجود الصنم، ربما للهرب من تحقيق الحلم الشخصي وعدم الرغبة في بذل الجهد، وأحيانا لليأس من الحلم الوطني، فيجعل صانع الصنم نجاح “صنمه” نجاحًا شخصيًا وإنجازًا ومتعة خالصة له “ويحارب” من يقترب من النيل من صنمه.

من المسيء لكثير من القضايا المحترمة والجادة بأنواعها “فرض” بعض الشخصيات عليها وتقديمهم “كأيقونة” وكأنهم من انفردوا بتحقيق أي إنجاز تحقق للقضية -أيا كان نوعها- وكأن من “اقتنع” به من الشعب ومن “شاركهم” بفعله وربما قام وتحمل العب الأكبر هم قطيع مسلوب الوعي والإرادة أمام الأيقونة المزعومة ونرى الكثيرون من الجنسين ومن كل الأعمار “يرفضون” بحدة وبعنف رؤية كذب الأيقونات وزيفها مهما تكشفت الأقنعة عنها وهل هناك من يرفض “تعرية” صنمه بسهولة؟

الثابت من الواقع أن كل الأصنام لم تقدم أي فائدة لمن يدمنون عبادتهم أو أي مبرر لتجديد اختيارها، فلم يقدموا خدمات مجتمعية ولا تبرعات غير مسبوقة للفقراء ولا حسّنوا حياة أي إنسان ولا حتى قدموا شيئا للحيوانات وغالبيتهم يمتلكون فقط أو يدعون ويتظاهرون بثقة زائدة وغير مبررة بالنفس والقدرة على “الإيحاء” بأنهم متميزون ولا ندري كيف ولا لماذا ولا أي سبب “يدعم” مدمنو عبادة الأصنام ادعاءاتهم التي يلحون بها أمام وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، “ويرضخ” بعض الناس لهم بسببها ويدافعون عنهم “بشراسة” وكأنهم يدافعون عن أنفسهم وعن مبرر وجودهم بالحياة!

من الأصنام الشائعة بعض لاعبي كرة القدم وإلا فلماذا يطلق بعض الناس على لاعب “فخر العرب”، ومنهم من “يتطرف” ويطلق عليه فخر العالم؟! وما الفخر للعرب فيمن يجيد استخدام قدمه في ركل الكرة ويتدرب طويلًا ليجيد ذلك؟ هل بلغ الشعور بضعف تقدير الذات لدى هؤلاء و”اليأس” من احتلال العرب مكانة “لائقة” في العالم للتشبث بقدم لاعب كرة؟ والدفاع المستميت عنه كلما أخطأ وكأنه منزه عن الخطأ واتهام من “يجرؤ” على انتقاده بعقد النقص والشعور بالعجز أمام نجاحه وأنه يريد تحطيم الأجيال الجديدة التي تراه “قدوته” وحرمانها من الأمل!

ورأينا من يتسابقون في تبرير “خطيئته” في المساواة بين المقاومة في غزة والصهاينة بكلمته الجوفاء “كل الأرواح مقدسة”، في “خيانة” واضحة لفلسطين وللعرب ومساواة بين دماء الضحايا ودماء الغاصبين، فأين الفخر الذي يمثله؟

من المسيء أيضا رؤية الأصنام “المستحدثة” فنرى صدامات من الجنسين وصراعات بين مؤيدي أصنام بعض مقدمات برامج الطبخ “والتراشق” اللفظي البشع بينهم وإلقاء التهم وتبادلها بغضب عنيف!

ولا ندري هل “هانت” الأصنام ووصلت لهذا الحد؟ أم أنه الفراغ الذي يختاره أناس “هربًا” من حياة حقيقية يستمتع فيها بالتطور وصنع ما يليق به وبمن يحب.

المصدر : الجزيرة مباشر