50 عاما على مولد “السفير” وأزمة الصحافة بلبنان

العدد الأخير من صحيفة "السفير اللبنانية"

بحلول 26 مارس/آذار 2024، تمر 50 سنة على العدد الأول من جريدة “السفير” لمؤسسها ورئيس تحريرها الصحفي طلال سلمان، رحمه الله.

وهي مناسبة لتذكر ما كانت عليه صحافة لبنان من حضور وإشعاع وتأثير داخل بلادها وفي محيطها العربي، وبخاصة المشرقي. وكذا لتأمل ما أصبحت عليه في عالم الإنترنت وسيادة تقنيات التواصل الاجتماعي الجبارة، التي تأخذ بالأعين والألباب والعقول عبر شاشة هاتف محمول أو ساعة يد.

من ينسى “السفير”؟

ومن من أجيال الصحافة العربية الورقية ينسى “السفير”؟ التي اتخذت لها شعار “صوت لبنان في الوطن العربي وصوت الوطن العربي في لبنان”، وعبرت عن انحياز اجتماعي تلخصه عبارة “صوت الذين لا صوت لهم”، وترجمته حملات صحفية لأجل فقراء لبنان ومهمشيه.

ومن لا يتذكر شعارها المميز: تلك الحمامة الدائرية بلون برتقال “يافا” فلسطين، التي ابتدعها الفنان والصحفي المصري “حلمي التوني”، أطال الله عمره وأتم شفاءه من عملية جراحية أجريت له مؤخرا في القاهرة.

إلى عهد قريب ولعقود لم يكن بين صحف لبنان اليومية أكثر شهرة وأهمية من “السفير” مع زميلتها وغريمتها ومنافستها “النهار” لآل “تويني” الأقدم عمرا، التي تعود إلى عام 1933. وهي ما زالت تجاهد لتصدر، فيما توقفت “السفير” بحلول نهاية 2016، وبعدد تذكاري دسم من 60 صفحة صدر يوم 4 يناير/كانون الثاني 2017.

وربما شغلت محل “السفير” يومية “الأخبار” البيروتية الصادرة منذ 2006، مع تشابه في التوجه العروبي التقدمي المناهض للاستعمار الأمريكي الغربي والصهيونية والانعزالية اللبنانية، لكن بعلاقة أوثق مع “حزب الله”.

نفتقدها لهذه الأسباب

نفتقد “السفير” وتغطياتها الإخبارية ومواقفها وآراء كتابها ومقال صاحبها الافتتاحي بالصفحة الأولى الذي ظل يحمل عنوان “على الطريق”. وبفضلها، مع “القبس” الكويتية، لا نمل استدعاء شخصية “حنظلة” للشهيد الفنان الكاريكاتير ناجي العلي. لأن “حنظلة” يقابلنا لليوم في وجه كل مظلوم، فلسطينيا كان أو من أيّ جنسية وملة ودين، ومع كل تهجير وتشريد وفقر وقمع وقهر يعانيه شعب فلسطين ونعانيه.

نفتقدها اليوم، اتفق قراء العربية مع “السفير” أو اختلفوا في هذا الموقف أو ذاك، ومهما تعدد الفهم للعروبة، وتباين إلى حد الافتراق والصراع، أو الانتقادات لممارسات حاملي ألوية القومية العربية وشعاراتها، ومعها معاناة استغلالها كذريعة للاستبداد والنهب، والتغطية على كل ما هو عكسها، وضد إنسانية المواطن العربي وحقوقه وحرياته.

نفتقد “السفير”، الجريدة الكلمة المعلومة والموقف، وبخاصة أمام محن وملمات عالمنا العربي. ونتذكر لها عناوين رئيسية (مانشتات) بمثابة علامات تاريخية، على غرار عدد 5 أغسطس/آب 1982: “بيروت تحترق.. ولا ترفع الأعلام البيضاء”.

واليوم نفتقدها مع حرب الإبادة الصهيونية الأمريكية على غزة الممتدة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ونهوض مقاومة الشعب الفلسطيني من جديد، مع هذا الزخم الجماهيري حوله من مختلف أنحاء العالم. وهذا بينما النظام الرسمي العربي على حاله ضد الشعوب. وكما تلخصه عبارة “حنظلة” التي تعيش بعد استشهاد من ابتدعه ورسمه: “من راقب الأنظمة مات همَّا”.

الظاهرة وسياقها

اللبناني والعربي

لا يمكن فهم ظاهرة “السفير” وأهميتها في تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية من دون تأمل جملة اعتبارات ومفارقات منذ دخول طلال سلمان عالم صحافة بيروت نهاية خمسينيات القرن العشرين من بوابة مجلتي “الحوادث” و”الأحد” للراحلين الشهيدين سليم اللوزي ورياض طه، وكلاهما بدوره محسوب على التيار القومي العربي، وكان مقربا إلى الرئيس الراحل عبد الناصر.

ووفق سرد سلمان لذكرياته عن بداية مشواره الصحفي بكتاب “كتابة على جدار الصحافة” الصادر 2012، تعددت توجهات ومدارس الصحف في لبنان سياسيا ومهنيا، وفي سياق الصراعات بين “مصر الناصرية العروبة” وخصومها، وحتى بين القوميين العرب وداخل اليسار. وتؤرخ لهذه الصراعات كتب السياسة والصحافة في لبنان وأرشيفات أعداد هذه الصحف، حيث كانت تمتزج فيها حرية وتعددية وانتعاش المهنة وصناعتها وتقدم تقنياتها مع عنف دموي وتمويلات أنظمة وأجهزة.

ولقد اشتهر قول الصحفي والناشر الراحل رياض نجيب الريس: “كنت صاحب مهنة لا يمكن ممارستها إلا في لبنان، حيث البلد العربي الوحيد القادر على احتضان صحافة حرة”. لكن لبنان هذا نفسه على الأرجح قدم أكبر عدد من الصحفيين الشهداء في المنطقة ممن جرى استهدافهم بالاغتيالات، وكان من بينهم أستاذي سلمان، وصولا إلى شهيدي “النهار” في عام واحد (2005): سمير قصير وجبران غسان تويني. وفي المجمل، يمكن إحصاء 45 صحفيا شهيدا بلبنان من مختلف التوجهات منذ مطلع القرن العشرين، من بينهم 27 خلال سنوات الحرب الأهلية بين 1975 و1990.

وصاحب “السفير” بدوره أصيب بعدما نجا من محاولة اغتيال أمام منزله صيف 1984. كما صمدت الصحيفة في مواجهة دعاوى قضائية، وتفجير مطابعها ومحاولات تفجير أخرى، واقتحام مسلحين لمكاتبها، وتعطيل الصدور بدعوى عدم الالتزام بتعليمات الرقابة، وغيرها من كافة أشكال الضغوط والتضييق والاستهداف من أجل إخراس صوتها أو تغيير وجهة سياستها التحريرية.

 

عن محنة

الصحافة اللبنانية الآن

من المفارقات التي تستدعي التأمل والدارسة أن الصحف اللبنانية، ومعها نشر الكتب، ظلت رائجة منتعشة خلال الحرب الأهلية. فهل كان هذا بسبب ضخ المزيد من أموال القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح مع هذا الطرف المحلي أو ذاك، أم لأن القراء، وبخاصة داخل لبنان، زاد طلبهم للصحف بسبب جسامة ودرامية أحداث القتال الأهلي، وما تخللها من غزو إسرائيلي وتدخل عسكري أمريكي، وشدة وقعها على حياتهم ووجودهم؟

في الظن أن أزمة الصحافة بلبنان، وبخاصة المطبوعة، بدأت بعد نهاية الحرب الأهلية، وما تلاها سريعا من متغيرات كعزل العراق وخروجه من النظام الإقليمي العربي بعد غزو “صدام” للكويت. وبعدها انتشرت مطبوعات يومية بالعربية عابرة للحدود ممولة بسخاء، تصدر بالأساس من لندن، مثل “الشرق الأوسط”، وتباع اليوم طبعتها اللبنانية بخمس سعر صحيفة “النهار”.

وتوالت بعد التسعينيات حلقات الأزمة، واستحكمت عبر محطات: ثورة الاتصالات والإنترنت وبزوغ الصحافة الإلكترونية مع بداية الألفية الحالية، ونضوب الإعلانات وانخفاض إقبال القراء مع الركود الاقتصادي والانهيار المالي البنكي فوباء “كورونا” 2019 و2021.

 

ملامح أزمة

استحكمت

من ملامح الأزمة وانحسار الصحف الورقية بلبنان تبدل المعروض في أكشاك الصحف الشهيرة بشارع “الحمرا”، لتتقدم الكتب القديمة، وبخاصة ما يعالج الطبخ والأبراج والجنس، ثم الروايات. وكذا ما قاله لي صاحب أحدها العجوز بأنه كان يوزع في اليوم قبل سنوات ألف نسخة من أكثر الصحف اللبنانية انتشارا، ولم يعد الآن يتجاوز عشرين نسخة منها.

وفي لقاءات ثلاثة، أبلغني رئيس نقابة الصحافة اللبنانية عوني الكعكي بأن عدد الصحف اليومية والمجلات السياسية الأسبوعية انخفض من نحو 150 إلى 10 صحف يومية، ولم تبق مجلة سياسية. وقال نقيب المحررين جوزف قصيفي إنه لم يعد هناك صحيفة يومية يتخطى توزيعها عشرة آلاف نسخة، وإن متوسط ما أصبحت الصحف توزعه يوميا لا يتجاوز خمسين ألفا.

وبسط غسان حجار مدير تحرير “النهار” أمامي العديد من ملامح أزمة غير مسبوقة تجعل الصحيفة العتيدة تراهن على الاشتراكات السنوية بموقعها الإلكتروني، وبخاصة بين اللبنانيين في المهاجر البعيدة: بيع طوابق بمبنى المؤسسة، والاستغناء عن خدمات 80 صحفيا دفعة واحدة والملاحق اليومية التي كانت تصدر على مدى الأسبوع وعدد الأحد، مع انخفاض كارثي في الإعلانات والتوزيع الورقي.

 

ماذا بقي

من “السفير”؟

يظل من “السفير” في ذاكرتي وعدد من الصحفيين المصريين، معنى أن نقيب الصحفيين المصريين ورئيس اتحاد الصحفيين العرب الأسبق كامل زهيري رحمه الله، ما إن وضع وفد النقابة القادم من القاهرة إلى بيروت بمناسبة تحرير جنوب لبنان صيف 2000 حقائبه بالفندق إلا قاده أولا إلى مبنى “السفير” ومكتب طلال سلمان. وهذا المكان برمزيته ظل بالنسبة لأجيال توالت من الصحفيين خارج لبنان بمثابة المقصد الأول في بيروت.

أمر آخر يبقى، كي تتميز به “السفير” وتختلف عن غيرها من المؤسسات الصحفية اللبنانية ذات الطبيعة الملكية العائلية، التي أغلق العديد من كبرياتها في السنوات الأخيرة، هو أنها احتفظت بأرشيف الجريدة مع إتاحته إلكترونيا، وأبقت على المبنى حيا ينبض بأنشطة الثقافة والفنون ومفتوحا للنخب والمجتمع. وهذا بفضل جهود الأساتذة: أحمد وربيعة وهنادي طلال سلمان. ولن أزيد كلمة عن حال لأيسر عدو أو حبيب اختبرته عند اثنتين من كبريات المؤسسات الصحفية العائلية ببيروت، وكيف أهملها وأرشيفاتها البنات والأبناء؟

ولعل ضياع وحجب أرشيفات صحف ومجلات علامات في تاريخ الصحافة اللبنانية والعربية أو بيعها للخارج، يفتح الباب للتفكير في أن تنهض جهة معتبرة في عالمنا العربي بمهمة جمع تراث صحفنا اليومية السياسية من المحيط إلى الخليج، وتصويره رقميًّا، وإتاحته إلكترونيًّا.

ففي هذه الصحافة لا نقول تاريخنا كله. بل جانب منه نحتاج إلى العودة إليه لفهم أصول ما يجرى في حاضرنا ومستقبلنا، مع إعمال أدوات البحث والنقد العلمي.

المصدر : الجزيرة مباشر