لبنان.. المهم والأهم والخبز قبل اللاحرب واللاسلم

أنصار زعيم حزب الله اللبناني يستمعون إلى خطابه عبر شاشة عرض (غيتي)

أقمت في بيروت نحو ثلاثة أشهر إلى ما قبل رمضان بيوم واحد، ولم أشعر خلالها بجدية كون البلد يعيش قتالا يوميا مع إسرائيل يحتمل ما هو أخطر، والانتقال إلى “حرب شاملة”.

وخرجت بأن ذكرى حرب يوليو/تموز 2006 تبدو عند الكثير من اللبنانيين محض أطياف بعيدة. وقد أتيح لي معاينة آثارها التدميرية من بيروت إلى “رأس الناقورة” على الحدود مع فلسطين المحتلة جنوبا في زيارة سابقة، بعد أسابيع معدودة من تلك الحرب. ورأيتها حينها مذهلة مرعبة.. وبالطبع إجرامية.

قبل الزيارة الطويلة/ الإقامة، نصحني أصدقاء وحذروني من احتمال إغلاق مطار بيروت الدولي جراء اتساع العدوان الصهيوني الإسرائيلي مع إصرار “حزب الله” على التمسك بخيار “وحدة الساحات” تضامنا مع الشعب الفلسطيني ضد حرب الإبادة الجارية على غزة. لكنني استهنت بالنصيحة، ولحسن الحظ ما خاب رهاني.

أما خيار “حزب الله”، فالأرجح أنه مقبول أو مقدر بين الشعوب عربيا وإسلاميا مع كل أحرار العالم. ولكنه يعيد الحزب إلى موضع الاتهام من خصومه المحليين والإقليميين بخدمة “أجندة طهران”، التي ترى خطر تل أبيب وعدوانها بعين وترنو إلى “صفقة” أو “صفقات” في الأفق مع واشنطن والرياض بعين أخرى.

ومع هذا اكتشفت أن لهذا الخيار مع ضبط حدود التصعيد ضد إسرائيل بجنوب لبنان عند “حزب الله” اعتبارات وحسابات داخلية تتعلق بالبلد، لا بخارجه وحسب.

وهذا مع ذاك أظنه مطلوبا لفهم موضع الحزب في الحالة اللبنانية الراهنة وعلى جبهة القتال. وهي محاولة فهم تتوقى ألا تبالغ أو تهون، ولا تظلم الحزب أو تمجده. كما لا تنكر ارتباطاته الخارجية مع أخطائه وخطاياه سوريًّا وإيرانيًّا. وأيضا ما يبدو من تغوله على الدولة، ثم داخلها، مع تكريسه للطائفية وأمراضها وسلبياتها ثقافة وممارسة وعلاقات.

حرب أو لا حرب

كنت أمر يوميا على عناوين بالصحف ومختلف وسائل الإعلام اللبنانية تعتبر ما يجري منذ 8 أكتوبر/كانون الأول 2023 بين “مناوشات على الحدود” و”حرب استنزاف”. ولم تخل تلك الأيام من عنوان لصحيفة يهول ويستهين لكنه يخيف في الآن نفسه، على غرار: “مرحبا بالحرب”، أو عناوين أخرى في صحيفة مختلفة التوجه والانتماء والارتباطات الإقليمية تصرخ: “حرب لبنان الآتية”، و”حرب التورط والتوريط”.

ولأن حرب الإبادة الصهيونية طال أمدها في غزة، وبالتالي طال أمد القتال على الحدود بين لبنان وفلسطين، ولأن لكل حرب نهاية، فقد دخلت بيروت إلى حسابات ما بعد سكوت المدافع. وأصبحت مقصدا لجولات مكوكية لمبعوثين أمريكيين وفرنسيين ودوليين وغيرهم لا تقتصر مهامهم على هدف وقف إطلاق النار.

بل كذلك فتحت هذه الجولات مع الفرقاء بلبنان ملفات ما كان مسكوتا عنه من قبيل: تطبيق بنود القرار 1701 الذي انتهت به حرب 2006 سواء بالنسبة لوقف العدوان والانتهاكات الإسرائيلية اليومية لسيادة لبنان جوا وبحرا، والانسحاب من “مزارع شبعا” المحتلة منذ يونيو/حزيران 1967 وتلال “كفر شوبا” المحتلة 1975، وإتمام ترسيم الحدود، مقابل إعادة “حزب الله” مقاتليه وعتاده الحربي إلى ما خلف نهر الليطاني كما كان الحال قبل 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

بل أصبح ملف انتخاب رئيس جمهورية جديد (من الطائفة المسيحية المارونية) يختلط بحسابات وقف القتال في الجنوب وما يليه. وكأن هذا الملف/ المعضلة يحتاج إلى مزيد تعقيدات، وهو أصلا معطَّل منذ نحو عام ونصف في غياب التوافق بين الزعامات السياسية الطائفية داخليا والقوى الإقليمية المؤثرة.

هذا عن المعركة وما بعدها، أما بالنسبة للحياة المعيشة لمعظم اللبنانيين، فلم ألمس فيها اكتراثا بمناوشات أو قتال أو حرب استنزاف أو غيرها. وهذا هو الحال في الأغلب سواء كنت في بيروت أو غيرها من المدن والضياع التي زرت، وحتى صيدا جنوبا وطرابلس شمالا.

ونادرا، بل نادرا جدا، ما بلغتني أنباء القتال والقصف والشهداء والأضرار بلبنان وأهله، عن طريق الناس في الشوارع والأسواق أو عبر مذياع في سيارة أجرة أو حافلة كنت استقلها. هذا مع أن العدوان تسبب في تهجير نحو مئة ألف من أهل الجنوب، وتبوير نحو ثمانية ملايين متر مربع من الأراضي المزروعة والغابات المثمرة، ومع استخدام تل أبيب الإجرامي قذائف الفسفور وغيرها من المواد المحرمة دوليا.

عربة وانفصلت

عن قطارها

هكذا بدت لي الحياة تسير في معظم لبنان بلا حضور قوي لافت لقتال أو حرب. وكأن لبنان الآخر، حيث طابور الشهداء الذي يقترب من ثلاثمئة شهيد بينهم 52 مدنيا والمناطق المتضررة من الهجمات الإسرائيلية وصولا إلى أبعد نقطة إلى الآن على مشارف “بعلبك” ومرتين، عربة مؤخرة انفصلت بعيدا عن قطار يسير مدفوعا أساسا بقوة وعنفوان الأزمة الاقتصادية السياسية. وكأن ما يتحكم في عربة على هذا الحال، ترجها الفوضى والأخطار، معاناة يومية تطبع حياة اللبنانيين على اختلاف أحوالهم الاجتماعية وانتماءاتهم الطائفية. وتجعل العديد منهم لا يمل القول: “لبنان في أسوأ أحواله بعد الحرب الأهلية”.

وبمرور الأيام والأسابيع، أدركت مدى الانفصال والتباعد بين ما يعيشه الناس في قبضة المعاناة الاقتصادية المعيشية وبين عبارات وصور على الجدران ومعلقات فوق الطرقات والجسور تستدعي المقاومين اليوم وأمس وهنا وهناك من داخل لبنان وخارجه، من “أبي عبيدة” و”العاروري” الفلسطينيين إلى “قاسم سليماني” الإيراني. وبالطبع فإن كثافة هذه العبارات والصور تتوزع في مدن وأحياء وفق حضور الألوان الطائفية السياسية بها، وكذا تنوعاتها الطبقية الاجتماعية الثقافية.

من حصاد حوارات

تلقائية مع الناس

واللافت أن غالبية الحوارات التلقائية مع لبنانيين على مدى هذه الأشهر كانت تدور في الأغلب وبالأساس حول أجندة قضايا تتصدرها:

1ـ صعوبات وتكاليف وأعباء توفير السلع والخدمات الأساسية لاستمرار الناس على قيد الحياة مع التدني الكارثي في الرواتب والمعاشات والدخول لدى الطبقات الشعبية والوسطى بانهيار العملة المحلية قبل نحو خمس سنوات.

2ـ الفوضى اللامعقولة التي يواجهها اللبناني والمقيم عند تعامله مع الأسواق والأسعار.

3ـ الإمعان في غياب الدولة وسوء الإدارة وتفشي الفساد والمحسوبية والطائفية في إداراتها. وقد لحق بكل هذا ما استجد من إضرابات وردود أخذت تنتشر بجهاز الدولة طلبا لزيادة حقيقية في الرواتب لمواهة استحالة العيش بتلك الليرات المليونية التي لا تساوي إلا حفنة دولارات حاليا، ولا تشتري إلا أقل القليل.

4ـ تبنى حكومة تسيير الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي وتمرير مجلس النواب برئاسة “نبيه بري” ميزانية قاسية غير شعبية تحت عنوان خفض العجز المالي، ومن أجل تلبية طلبات وضغوط صندوق النقد ومقرضي ومنظري النيوليبرالية، مع تحميل الموظفين وعموم العاملين بأجر، المزيد من الأعباء الضريبية.

5ـ وكذلك ما زالت تحضر عند الناس جذوة السخط على ضياع أموال صغار المودعين في البنوك بالدولار، وقد فقدوا الأمل تقريبا في استعادتها. وكأنه لم يعد يعنيهم لا تصريحات رسمية ولا أخبار عن قرب الإفراج عن حصة منها، بعدما اختبروا عدم الوفاء بوعود سبقت، ومرت مرور الكرام كجعجعة بلا طحن.

6ـ تآكل وغياب الثقة في العدالة والقضاء مع استمرار الغموض والإفلات من المحاسبة والعقاب. وهي حالة ما زالت تحيط بجرائم كبرى، ويتقدمها: انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2000، والفساد في مصرف لبنان المركزي وتهريب أموال كبار المودعين بالعملة الصعبة إلى الخارج.

7ـ فشل انتفاضة الشباب في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على فساد الطائفية والمحاصّة والزبونية (المحسوبية)، واتفاق الطائف أو ما انتهى إليه، واقتصاد الريع/ العمولات/ التبعية/ رأسمالية المحاسيب/ النيوليبرالية، وإفشال سعيهم لإنجاز المواطنة على قاعدة المساواة وعلمانية وفصل الدولة والسياسة عن الأديان والطوائف. وفي القلب مما بقي من محاولة التغيير هذه المتجاوزة لأسوار الطوائف مرارة وحنق على دور الزعامات السياسية الطائفية، بما في ذلك “حزب الله”، في هذا الإفشال، باستخدام العنف أحيانا سواء بواسطة جهاز الدولة أو المليشيات.

 

أجندة شواغل تفوق

الاهتمام بالجبهة جنوبا

ويمكن استنادا إلى انطباعات مشاركة العيش بالبلد والاستماع إلى ناسه خلال مدة الإقامة السابقة الإشارة إليها وضع هذه القضايا على رأس أجندة الاهتمامات والشواغل عند الناس بلبنان. ومن الخطأ ألا نرى وندرك أنها تشغل أغلبهم عن القتال الجاري بين “حزب الله” والقوات الإسرائيلية الصهيونية على خلفية حرب غزة منذ ما يزيد على خمسة أشهر، واحتمالات تطور القتال وتوسعه إلى “حرب شاملة” أو استبعادها.

بل يمكن الاجتهاد والقول إن هذه الشواغل المعيشية للناس تتقدم أي جدل وخلافات حول خيار القتال من الجنوب وعواقبه المحتملة. وهذا وفق الترتيب السابق، ودون الاعتماد على أدوات رصد أو تعداد وقياس تسمح بتقدير نسب مئوية لهذه الاهتمامات، مقارنة بالقتال جنوبا.

كيف يمكن

العيش “هيك” (هكذا)؟

وعلى سبيل المثال، كيف لأستاذ جامعي مخضرم الاستمرار على قيد الحياة وإعالة أسرته بعد أن انخفض راتبه أو معاش تقاعده من نحو 4000 دولار إلى ما قيمته اليوم 400 دولار، يدفع نحو ثلثها لمتعهدي مولدات الكهرباء لتأمين حاجة شقة صغيرة يسكنها؟ وهذا في حين لا تغطي كهرباء الدولة الأقل سعرا إلا ساعتين في اليوم بمعظم المناطق. وما زال المبنى الرئيسي لكهرباء لبنان قرب مرفأ بيروت معطلا مهجورا، وعليه آثار الانفجار دون أن تمتد إليه يد بالإصلاح إلى اليوم.

ومثلا أيضا كيف يمكن لوم موظفي وعمال المتحف الوطني بمنطقة العدلية ببيروت عندما أغلقوه وعلقوا على بابه الرئيس “إضراب مفتوح”؟ حين تعلم بانخفاض رواتبهم الشهرية، التي كانت بين 1000 و2000 دولار، إلى ما قيمته مئة أو مئتين.

وكيف لا تتعجب عندما تسمع وتعلم أن إصدار جواز سفر للبناني يظل طلبا معلقا لسنة أو أكثر، ويحتاج إلى واسطة عند الإدارة المختصة؟ وأن لبنانيين ما زلوا يحملون جوازا غير “بيروميتري” إلى اليوم؟

وكيف لا تتألم وتأسف، بل وتجزع، عندما يصادفك أكثر من عسكري من جيش محترف يعمل بعد ساعات خدمته سائق تاكسي “سرفيس”، يلتقطون، وبعضهم قضى 20 سنة في الخدمة العسكرية، ركابهم واحدا تلو الآخر في هذه الرحلة أو تلك، كي يتمكنوا من إعالة أنفسهم وأسرهم، بعدما انخفضت قيمة رواتبهم وقدرتها الشرائية إلى عشرة في المئة مما كانت عليه قبل انهيار الليرة اللبنانية. وهذا لأن كل الزيادات “الهائلة” بالعملة المحلية في الرواتب (المسماة ثلاثة رواتب) تعجز عن تعويض ما فقدوا وغيرهم من مورد للعيش الكريم.

لكن هل هذه هي كل أبعاد الصورة في بيروت اليوم مع حرب الإبادة الصهيونية على غزة وتداعياتها واحتمالاتها على لبنان؟ في مقال لاحق سنحاول الإجابة عن هذا السؤال.

المصدر : الجزيرة مباشر