هل يمكن التعايش مع الصهيونية؟

يحمل العلم الإسرائيلي احتجاجا على نتنياهو (رويترز)

لا يعرف المرء هل يندهش إزاء الفظاعات الوحشية الأخيرة لجيش الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني خلال حرب الإبادة على غزة، أم يقتل قدرته على الدهشة لأن ما يجرى تكرار لما كان من أفعال الصهيونية منذ حلت بمنطقتنا مع موجة الاستعمار والاحتلال قبل نهاية القرن التاسع عشر؟ لكن في السطور التالية بعض ما يجب أن نعلم ولا ننسى مسؤولية كل من يقبل ويتعايش مع الصهيونية عن استمرار هذه الجرائم ضد الإنسان والإنسانية، بما في ذلك قتل المسن الفلسطيني الأعزل الأصم “عطا إبراهيم المقيد” قبل أيام بمنزله في غزة.

أيديولوجيا خطيرة

ومدانة بالتمييز العنصري

في 16 ديسمبر/كانون الأول 1991، ارتكب النظام الرسمي العربي ودوله القائدة “المحورية” بالمصطلح الأمريكي لاحقا، واحدة من خطاياه ضد الشعوب وفلسطين، وربما ضد نفسه.

بكل رعونة لم يتفق على التصدي لمشروع قرار أمريكي يلغي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 الصادر عام 1975 الذي يصف ويصنف الصهيونية على حقيقتها، التي تعيد حرب الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 تذكير العالم بها. فهكذا هي كانت وتظل وفق النص الملغى بعد 16 عاما من إصداره “أحد أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. وقد دعا القرار كل الدول إلى مقاومة هذه الأيديولوجيا التي “تشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين” وفق نص القرار الدولي.

وكان هذا القرار رقم 3379 تتويجا لجهود سياسية ودبلوماسية توالت مع زخم حرب أكتوبر 1973، وتضمّن إشارات إلى قرارات سبقته في الاتجاه ذاته اتخذتها مؤتمرات رؤساء ووزراء خارجية الدول الإفريقية ومجموعة عدم الانحياز. ونصت فقراته على “الأصل العنصري الاستعماري المشترك” بين الأنظمة الحاكمة في فلسطين مع زيمبابوي وجنوب إفريقيا حينها. كما تأسس على قرارات أممية لتصفية الاستعمار والعنصرية منذ مطلع الستينيات.

عودة إلى مفارقات التصويت

على القرارين

يستحق ألا ننسى مع كل مذبحة يرتكبها الصهاينة ما جرى يوم 16 ديسمبر 1991 عند تمرير مشروع هذا القرار أمريكي، وقد جاء في سطر واحد، وهذا نصه المحفوظ لليوم على الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة “الجمعية العامة تقرر إلغاء القرار 3379 المؤرخ 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975”.

ويقينا كان النظام الرسمي العربي يعاني شرخا وانقساما أصابه بغزو “صدام حسين” للكويت في الأول من أغسطس/آب 1989، ثم بناء إدارة “بوش” الأب تحالفا عسكريا يضم قوات دول عربية لاستخلاصها من قبضته. وهو ما جعل النظام العربي ومكوناته الرئيسة، ومعه منظمة التحرير الفلسطينية بعد موقف قيادتها المؤيد بداية لـ”صدام”، أكثر ضعفا وهشاشة أمام التغييرات الكبرى حينها على المسرح الدولي. وبعد أشهر معدودة من إلغاء قرار عنصرية الصهيونية، وبحلول نهاية العام نفسه، اختفى الاتحاد السوفيتي ومعه الكتلة الشرقية الاشتراكية.

ويلفت النظر عند العودة لمراجعة ردود الفعل على قرار الإلغاء حينها اعتراض يهود غير صهاينة على القرار الأمريكي بإلغاء وصم الصهيونية بالعنصرية والخطورة على السلم والأمن الدوليين، بينما برر ممثل الدولة المصرية في عهد الرئيس “مبارك” لدى الأمم المتحدة “نبيل العربي” تغيبه عن الجلسة وعدم التصدي للإلغاء في بيان نص على ما يلي “مصر ترى ضرورة توفير المناخ المناسب للعمل من أجل السلام الدائم والعادل في الشرق الأوسط”، وهذا وفق ما ورد بعدد “الأهرام” 18 ديسمبر 1991.

وفي التوقيت ذاته، كانت وفود الدول العربية المشاركة في مفاوضات مع إسرائيل كل على حدة وتحت غطاء مؤتمر مدريد “للسلام” تشكو من مماطلة إسرائيل وتعنتها، بل إن حكومة “شامير” اختارت ذلك التوقيت لتعلن عن مشروعات استيطان جديدة فوق أراضي الضفة الغربية والقدس المحتلة.

خطيئة الاعتراف

العربي بالصهيونية

والحقيقة أن تمرير إلغاء قرار عنصرية واستعمارية الصهيونية وخطرها على السلم في الإقليم والعالم مطلع عقد التسعينيات جاء متسقا مع نتيجة الاتفاقات التي أخذت الأنظمة العربية تعقدها منفردة مع إسرائيل منذ نهاية عقد السبعينيات، وهي روحا ونصوصا تنطوي على اعتراف بإسرائيل “دولة للشعب اليهودي” وفوق أرض فلسطين.

وجوهر هذه الاتفاقات يقوم على قبول الضحايا، أو بالأدق من يمثلوهم رسميا، بجملة المغالطات والأكاذيب الأيديولوجية الصهيونية بأن أتباع ديانة واحدة (اليهودية) يتوزعون بعمق عصور التاريخ وباتساع خرائط الجغرافيا في العديد من الدول ويتغلغلون في نسيج مجتمعات مختلفة يمثلون “شعبا” و”قومية” يحق لهم إقامة “دولة يهودية”، وذلك بالتلاعب بالمشاعر الدينية لليهود واستغلالها ومعاناة بعضهم في أوروبا، وبصناعة أساطير تناقض التاريخ والعقل، بل والحداثة.

وفي الصميم كان توقيع اتفاق مع “إسرائيل كدولة لليهود” اعترافا بالأيديولوجيا الصهيونية، وبزعمها أنها “حركة تحرر وطني وُلدت من رحم تطور الرأسمالية الأوروبية والاستعمار في القرن التاسع عشر، وتسليما بانتصارها على “القومية العربية”، وكذا مجمل حركات التحرر الوطني بالمنطقة، وبخاصة في مصر وفلسطين.

وتاريخيا، فإن كل أيديولوجية كحال الصهيونية، تترجم علاقتها في الواقع على حساب شعب آخر، وتنكر وجوده وتسلبه أرضه ومقدراته واستقلاله، وتظل تمارس الإرهاب كي يستمر هذا الإنكار عبر محاولات لا تهدأ لدوام الاستغلال والتدمير والمحو.

وهذا الاعتراف هو من أهم وأخطر خطايا زيارة “السادات” للقدس المحتلة وكلمته أمام الكنيست واتفاقاته ومعاهداته مع إسرائيل بين 1976 و1979. وقد كذب ومعه وسائل إعلامه عندما روج لأنه ذهب إلى القدس من أجل “سلام دائم شامل”. ثم كررت هذه الخطيئة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مع اتفاقات “أوسلو” 1993، فاعترفت بإسرائيل الصهيونية، مقابل فتات اعتراف إسرائيلي مشروط ومهين بالمنظمة، لا اعتراف بالدولة الفلسطينية المنصوص عليها في قرار التقسيم الاستعماري الجائر عام 1947.

ولم تنتظر المملكة الأردنية كثيرا بعد “أوسلو”، فأقدمت بدورها على توقيع اتفاقات “وادي عربة” عام 1994، واعترفت علنا ورسميا وفق نصوصها بإسرائيل الصهيونية العنصرية الاستعمارية، وعلى نحو مماثل للحالتين المصرية والفلسطينية، وهكذا أصاب داء قتل الذات ومحوها النظام الرسمي العربي.

تناقضات إخفاء المصطلح

والإبقاء على الصهيونية

حتى اندلاع انتفاضة الأقصى الفلسطينية خريف 2000، وبعدما تبددت أوهام “أوسلو” ووعوده، كان مطلوبا الاستمرار في إخفاء مصطلح “الصهيونية” ونسيان تاريخها الإبادي وكاستعمار عنصري استيطاني إحلالي ضد الشعب الفلسطيني مع غيره من الشعوب العربية، بل وتغييب تاريخ الصهيونية الإرهابي حتى ضد اليهود أنفسهم خارج هذه الأيديولوجية ومشروعها الاستعماري العنصري وعصاباتها الإجرامية التي ما زالت تحكم.

ومن واقع خبرة عمل في قسم الشؤون العربية بجريدة “الأهرام” حينها، وما تناقله زملاء في صحف أخرى داخل مصر والعديد من الدول العربية، بدت كلمة “الصهيونية” غير مرحَّب بنشرها، وإن لم نقل يجرى شطبها. وبالأدق تم تعمُّد إخفائها، حتى لا تظهر باللغة العربية بين سطور الصحف، أو تحملها موجات البث الإذاعية والتلفزيونية.

وثمة هنا وإلى تلك الفترة الزمنية أكثر من مفارقة، وعلى الأقل لدينا تناقض هذا الإخفاء مع استمرار إسرائيل تعلن كونها دولة لليهود، مع إعادة إنتاجها على نحو متواصل لأنماط المجازر والعدوان والاستيطان الاستعماري والقمع ومجمل السياسات والممارسات العنصرية الإرهابية. وكذا كل ما عرفه تاريخ التفاوض العبثي مع تل أبيب مع تصريح قادتها من يمين ويسار و”صقور” و”حمائم” بالصهيونية، وتفاخرهم بالإخلاص لهذه الأيديولوجيا وأهدافها، وبالتالي إنكارهم أقل ما تبقى للفلسطينيين والعرب من حقوق وأرض.

كما لدينا تناقض الزعم والترويج على نطاق عالمي وإقليمي بنهاية عصر الأيديولوجيات مع بقاء إسرائيل الصهيونية الأيديولوجية، والحرص على بقائها وتفوقها على مجمل الدول في محيطها، بل مواصلة انتزاع الاعتراف بإسرائيل، وبالتالي بالصهيونية، والقبول بها وتوسعة التطبيع معها.

كما لا تخلو الحملة على ما يسمى الأصولية والإحياء الإسلاميين ومشروعات “الدولة الإسلامية” من تناقض ونفاق عند القبول في الوقت نفسه بالصهيونية أيديولوجيا ودولة تقوم حصرا وبالعنصرية على ديانة واحدة “اليهودية”، ومنح كل يهودي في أي بقعة بالعالم حق الهجرة إلى فلسطين المحتلة واستيطانها. وهذا بينما يستمر منع غالبية أصحاب فلسطين الأصليين مسلمين ومسيحيين ودروز اللاجئين خارجها من العودة إلى وطنهم وأرضهم وممتلكاتهم، وبانتهاك للقرارات الدولية منذ نكبة 1948.

وجه آخر

لكنه محجوب

لكن على النقيض من كل هذه التناقضات وخطيئة النظام الرسمي العربي القبول بإسرائيل وصهيونيتها وإخفاء طبيعتها، لم يكد يمر عقد واحد من الزمان على قرار الإلغاء من الجمعية العامة 1991، إلا ونهض من مؤتمر “ديربان” بجنوب إفريقيا مجددا التوصيف العلمي لحقيقة الصهيونية كأيديولوجيا استعمارية عنصرية وإدانة تجسيدها “إسرائيل”، ولكونها خطرا دائما على السلام في العالم.

وجاء هذا النهوض بوضوح وقوة في “إعلان ديربان” من جنوب إفريقيا في سبتمبر/أيلول 2001، بعد نحو عام واحد من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. وتبنت الإعلان العديد من الدول ومنظمات المجتمع المدني على صعيد عالمي، وهو ما يمكن استدعاؤه اليوم والبناء عليه، وبخاصة بعد مبادرة دولة جنوب إفريقيا رفع دعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.

بين 2001 و2024، توالت تطورات ومتغيرات تسمح بالعمل من أجل “ديربان” جديد ضد الصهيونية، ومن بينها التحول الذي طرأ على خطاب ومواقف منظمات كبرى بالحركة الحقوقية العالمية نحو إدانة عنصرية إسرائيل على مدى السنوات الماضية، وحتى قبل 7 أكتوبر 2023.

وفي كل الأحوال، تطرح حرب الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني في غزة على جدول أعمال الأحرار كافة بمنطقتنا وخارجها السؤال: هل يمكن التعايش مع الصهيونية؟ وهو سؤال لا بد من مواجهة النظام الرسمي العربي به، ومسؤوليته عن كل جريمة جديدة تحدث الآن وفي المستقبل ضد الإنسان والإنسانية على أرض فلسطين وحولها.

المصدر : الجزيرة مباشر