العودة إلى وطن تهدده قنبلة موقوتة!

صينيون يهرعون إلى محطة القطارات مع بدء رحلة عيد الربيع للسكك الحديدية لمدة 40 يوما بدءا من 26 يناير من كل عام (الأناضول)

قرر ثلاثة من الأصدقاء الصينيين العودة بصفة نهائية إلى الوطن، بعد سنوات طويلة من العمل بين مصر والدول العربية.

بلغ الأول سن التقاعد، ورفض طلب إدارته استمراره في منصبه عامين آخرين، بينما تخطت الثانية الستين بأعوام، والثالثة تعرضت لحادث أقعدها عن الحركة.

أخبرني الأول برغبته في العودة ليزوج ابنه ويعيش بجواره، أملا في أن يأتيه بطفل يقضي معه أياما سعيدة. تتمنى المسنة السبعينية أن تقضي بقية أوقاتها في منزل هادئ اشترته بضواحي بيجين، آملة إقناع ابنتها التي شارفت على العقد الرابع بأن تأتيها بطفل ينتظره أجداده منذ سنوات. أما الثالثة فتعجلت الخروج من المستشفى إثر حادث أليم في القاهرة، لترجع إلى حفيدتها لتعيش برفقتها، أثناء انشغال والديها بسفر متواصل وعمل شاق.

اجتمع الثلاثة على حب الأطفال، وهو أمر طبيعي داخل الأسر الصينية التي تقدس روح العائلة وذكرى الأسلاف، أسوة بالعرب المتفاخرين بالجذور والأسباط. على مدار الأعوام الخمسة الماضية، رأيت الجدة المريضة أكثر سعادة مع حفيدتها، بينما الرجل يكابد الأمرّين في إقناع ابنه بالزواج، وترفض ابنة المرأة العجوز التفكير في الإنجاب على الاطلاق.

نهاية ذروة الخصوبة

تلخص حياة الأصدقاء الثلاثة حال الصين التي وصفها خبراء غربيون بجريدة إكسبريس البريطانية، في يناير/كانون الثاني الماضي، بأنها “قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، تهدد مستقبل البشرية”. يرى هؤلاء أن تراجع أعداد السكان في الصين، الذين يشكلون سدس الكرة الأرضية يمثل خطورة على كل الدول، لأن إضعاف الاقتصاد المحلي الضخم، سيؤثر بشدة ومباشرة في الاقتصاد العالمي.

رغم مخاوف الغرب من صعود الصين وتنبؤه بهيمنتها على العالم بنهاية القرن الحالي، فإنه يخشى فقدان زخم مصانعها التي توفر نحو ثلث الإنتاج الصناعي العالمي.

فعندما تتراجع القوة العاملة بالصين في وقت تقل فيه الاستثمارات ومعدلات النمو، سيدفع ذلك إلى ارتفاع أسعار المنتجات عالميا، وينخفض عدد المستهلكين وقوتهم الشرائية المحفزة للإنتاج. تقلص الصين بسرعة يعني للكثيرين تراجع التفاؤل واختفاء الأمل في المستقبل.

بلغ عدد سكان الصين ذروته عام 2022. انتشرت المخاوف من تناقص سكانها عقب بيان أعلنته الأمم المتحدة، في إبريل/نيسان 2023، يؤكد أن تعداد السكان الذي بلغ مليارا و425 مليون نسمة، يتساوى مع تعداد سكان الهند في يونيو/حزيران 2023، ليبدأ في التراجع سنويا، إلى أن يصل لأقل من مليار نسمة قبل نهاية القرن الحالي. تُظهر الأمم المتحدة أن انخفاض الخصوبة لدى المرأة الصينية بمعدلات هائلة على مدار 4 عقود مضت، لن يُمكن الدولة من استبدال عدد الوفيات، وانتقالها بسرعة إلى أمة تعاني شيخوخة مبكرة.

الغربة بين جدران الوطن

أمرت الدولة النساء بعدم إنجاب أكثر من طفل منذ عام 1979 حتى مطلع 2016، وطلبت من الشباب تأجيل الزواج المبكر، والإنجاب في وقت لاحق، اتبعت خلاله الإجهاض القسري، والتعقيم للرجال، وهو ما أجبر الأصدقاء الثلاثة على إنجاب طفل واحد. واجه المخالفون للأوامر الفصل من وظائفهم، والسجن أحيانا، والطرد إلى مسقط رؤوسهم بعيدا عن بيجين والمدن الكبرى، بما يحرمهم من التعليم والرعاية الاجتماعية والصحية الجيدة.

أعلن المكتب الوطني للإحصاء ولادة 9.02 ملايين نسمة عام 2023، ووفاة 11.1 مليون شخص، بزيادة 500 ألف عن عام 2022، بما قلص عدد السكان بنحو 2.08 مليون نسمة. خسرت الصين 3 ملايين نسمة خلال عامي 2022-2023، بما أعاد إلى الذاكرة حالات تراجع السكان خلال فترة المجاعات الممتدة بين 1959 و1961.

في دراسة سكانية أجرتها أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية، توقعت تقلص تعداد سكان الصين من 1.4 مليار إلى 525 مليون نسمة فقط بحلول عام 2100، وهي معدلات أعلى من توقعات الأمم المتحدة، بنحو 74 مليون نسمة. تشير الأكاديمية إلى أن كل 100 عامل سيتحملون عبء إعالة 137 فردا بنهاية القرن، بما يحرم الدولة ذات الدخل المتوسط من الدخول في مرحلة الغنى إلى الأبد.

تُبيّن الدراسة أن الصين وقعت في فخ “الخصوبة المنخفضة”، إذ تراجعت من مستوى 3 أطفال للمرأة إلى طفل واحد، وبمجرد انخفاض الخصوبة بدولة إلى أقل من 1.4 يصعب العودة إلى المستويات التي تحافظ على نمو أو بقاء عدد السكان، التي تتطلب نسبة ولادة 2.1 طفل لكل امرأة.

دفعت الإحصاءات المخيفة الرئيس شي جين بينغ، في بيانه للأمة مطلع العام الجديد، إلى حث الرجال على الزواج وإنجاب النساء للأطفال “لرفع شأن الأمة العظيمة”. لم تلق دعوات الرئيس صدى لدى الشباب الساخط، رغم الحوافز الاجتماعية والمالية، بسبب ارتفاع معدلات البطالة وأزمة الإسكان التي تُشعر كثيرين بالغربة في بلدهم، وتدفعهم إلى مغادرة وطنهم رغم بلوغه ذروة التقدم والقوة.

الأطفال عقوبة وسلعة أحيانا!

يرفض الشباب الامتثال لكلمات المرشد الأعلى للدولة، معترضين على معاملتهم كقطع الشطرنج. يعتقد الرجال أن الدولة تدفعهم إلى الإنجاب استعدادا لحرب قادمة، بينما تتمسك المرأة بحقها في حرية الاختيار.

تشير دراسة أجراها المركز الوطني للتنمية بجامعة بيجين، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلى أن التزام المرأة بسياسة الطفل الواحد الصارمة، منذ سبعينيات القرن الماضي، جعل نسبة منهن يتجهن إلى البقاء غير متزوجات مدى الحياة، والغالبية يتجهن إلى الزواج وإنجاب طفل واحد، ومنهن من يتزوجن ويرفضن الإنجاب تماما.

هي الحالة نفسها التي تعانيها صديقتنا السبعينية. تريد الابنة التمتع بالوظيفة والزواج، دون أن تمر بمرحلة الولادة خشية أن تفقد وظيفة رفيعة المستوى، وفي حالة العودة بصعوبة، ستخسر الراتب الكبير الذي تحظى به والحياة الهادئة، مع قيامها بأعمال المنزل ورعاية الطفل، وضرورة تغيير السكن إلى مكان أكثر اتساعا، قريب من المدارس والجامعات الجيدة.

نظرة الشباب إلى الأطفال أصبحت شديدة البراغماتية، مثل الدولة، تحركهم التكلفة الاقتصادية للإنجاب. النساء يخشين “عقوبة الأمومة”، والرجال يهربون من “عقوبة الطفل”. تارة تصبح الولادة كالاستثمار بسلعة استهلاكية لتضمن لهم عونا في فترة الشيخوخة، وأخرى كسلعة استثمارية سيتلقون منها العطاء بعد فترة طويلة!

قلة ممن يتمنون الإنجاب لامتداد النسل والنسب، يأملون تغيير الدولة لنظام الإقامة داخل المدن الغنية “الهوكو” وحرية انتقال الآباء والأجداد بين القرى والمدن، بما يعينهم على تربية الأحفاد ورعاية العجائز منهم دون ملاحقات أمنية، وحرمانهم من أبسط حقوق الحياة.

المصدر : الجزيرة مباشر