حل الدولتين.. قليل الأرشيفات يداوي “الزهايمر القومي”

يحمل علم فتح أمام لوحة جدارية للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، خلال مسيرة تضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة في 27 أكتوبر 2023 (الفرنسية)

يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” إنه يقف ضد حل الدولتين تجنبا لتجسيد دولة فلسطينية وبالمرصاد، بينما استدعت الإدارة الأمريكية وعدد من الحكومات الحليفة لتل أبيب “الحل” من النسيان، مع حث المزيد من الدول العربية على الالتحاق بالتطبيع.

وقبل نحو عام من اندلاع انتفاضة الأقصى في الضفة وغزة (28 سبتمبر/أيلول 2000)، نشرت جريدة “الأهرام” تصريحا لممثل فلسطين ومندوبها بالجامعة العربية السفير “محمد صبيح”، قال فيه، وفق ما جاء بعدد 3 أكتوبر/تشرين الأول 1999 وفي الصفحة الثامنة، إن شركة “والت ديزني”، ومن أشهر منتجاتها سلسلة أفلام الكارتون للأطفال “توم وجيري”، رفضت مشاركة فلسطين في معرض لها.

وتوقيت هذا الخبر عظيم الدلالة، لأن مثل هذه المقاطعة الأمريكية/الصهيونية لما هو فلسطيني، جاءت وهناك سلطة تمثل هذه الهوية برئاسة الزعيم الراحل “ياسر عرفات”، وكانت مشاركة في مفاوضات ما يُسمى “الحل النهائي” بشأن القدس والحدود واللاجئين وغيرها. وكذلك بعد انقضاء المهلة الزمنية لقيام الدولة الفلسطينية إلى جوار “إسرائيل” مع انتهاء مرحلة الحكم الذاتي وفق الجدول الزمني لاتفاقات “أوسلو”: خمس سنوات بعد توقيعها يوم 13 سبتمبر 1993. وكانت هذه السلطة تقود بحماس على مدى تلك السنوات قطار التطبيع باتجاه “تل أبيب”، ومن أجل إنهاء مقاطعتها.

عودة “حل الدولتين”

مع التطبيع

واليوم يعود أو يعاد الكلام عن “حل الدولتين” بعد طول تهرُّب وصمت ونسيان. وهكذا الآن فقط بعد هجوم “طوفان الأقصى” الذي هدد في الصميم أمن وطغيان إسرائيل وحلفائها في الإقليم والعالم، وأعاد القضية الفلسطينية على جدول أعمال النظام العالمي، وأحرج أقطابه النافذة من حكومات و”لوبيات” شركات رأسمالية عملاقة ومتعددة الجنسيات ورجال أعمال كبار أمام الشعوب، ومعهم “النظام” الرسمي العربي، وأسهم في بزوغ فجر وعي جديد بين الأحرار في كل مكان يناهض الصهيونية، ومن بينهم يهود وفي الولايات المتحدة.

ولا أعرف هل ينطبق على الترويج اليوم لـ”حل الدولتين” الاعتقاد أن للشعوب ذاكرة الأسماك، تعلم وتتألم وتدفع الأثمان باهظة من دم وحياة وموت لأجيال، ثم عليها النسيان، لتعيد الكرة المرة تلو المرة؟ أم إن أحدا لن يسأل، مع أولوية طلب وقف حرب الإبادة الجديدة على الشعب الفلسطيني رحمة بالأطفال والنساء، عن أي “حل” وأي “دولتين”؟

وعلى سبيل المثال واختبار النيات، هل أمر الرئيس الأمريكي “بايدن” وحلفاء إسرائيل بإيقاف وتجميد الاستيطان في الضفة الغربية، أو حتى بتجريد المستوطنين “المسعورين” من السلاح؟ وهل صدر بيان من جهة أمريكية أو أوروبية “مسؤولة” يقدّم اعتراضا أو موقفا عمليا واحدا ضد “التكاثر الأميبي” للمستوطنات والمستوطنين منذ مؤتمر مدريد ثم “اتفاقات أوسلو” مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومع الحمل الكاذب في “دولة فلسطينية” إلى جانب “إسرائيل”، من نحو 50 ألفا إلى ما يقارب 800 ألف اليوم. وهذا الإحصاء أقره وصرح به رئيس وزراء السلطة الفلسطينية “محمد اشتيه” أمام مؤتمر باريس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وألا يسأل متحمس متلهف بيننا لإعادة إنتاج “الكلام الأمريكي” عن حل الدولتين نفسه: هل تراجعت واشنطن عن نقل سفارتها إلى القدس المحتلة؟ وهل أعلنت ما يوضح موقفها من منع تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني بعودة اللاجئين وتعويضهم والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة ذات السيادة، وليست منزوعة السلاح والشعب والاستقلال والأمن والحياة؟ وهل سأل متحمس منهم عن مطلب إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل ونزع سلاح إسرائيل النووي؟

أرشيفات ليست خارجة

على النظام الرسمي العربي

حسنا، فلْنترك الأسئلة الكاشفة المحرجة جانبا، ولْنَعُد إلى الأرشيفات، لعل ما بها يداوى ما يظنونه فينا داء عضالا بلا شفاء بأننا مصابون بمرض “ذاكرة الأسماك”، أو لنقل “الزهايمر الجماعي والقومي”. وفقط وعلى سبيل “التسالي الجادة”، لا على طريقة “والت ديزي”، عدت إلى أرشيفات “الأهرام” المصرية، وهي يقينا ليست جريدة خارج النظام الرسمي العربي، لأتصفح عناوينها وأخبارها على مدى عام قبل اندلاع انتفاضة الأقصى 2000، وهذا بعدما نفد الصبر وفاض الكيل بالفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس الذين وُعدوا مرة تلو أخرى بتنفيذ “حل الدولتين”، فلم يحصدوا إلا المزيد من معاناة الإرهاب والاستيطان والإبعاد والتشريد والاعتقال والتعذيب والأوهام إسرائيليا وبرعاية أمريكية.

وعلى سبيل عينة القليل الذي يغني عن الكثير، لننعش الذاكرة ببضعة عناوين مطبوعة فوق صفحات “الأهرام” تحفظها الأرشيفات، ودون تعليق أو حاجة إلى شرح وإطالة خلفيات:

ـ “عرفات في حديثه لبرنامج (صباح الخير يا مصر): إعلان الدولة الفلسطينية في سبتمبر 2000″، 1999/9/23.

ـ “مراوغات باراك” عنوان افتتاحية رأي الأهرام، 1999/10/17 (إيهود باراك كان حينها رئيس الحكومة الإسرائيلية ومن حزب “العمل” الذي يوصف بالأكثر اعتدالا من “الليكود” ونتنياهو).

ـ “السلطة الفلسطينية تنتقد اتفاق باراك مع المستوطنين وتعتبره قبولا ضمنيا بالاستيلاء على أراضي الضفة”، 1999/10/25.

ـ “الفلسطينيون يطالبون إسرائيل بالتوقيع على معاهدة حظر الأسلحة النووية”، 1999/10/2.

ـ “عرفات يهدد بوقف المفاوضات النهائية إذا استمرت إسرائيل في توسيع المستوطنات”، 1999/7/12.

التبشير بدولة قبل

نهاية 2000

ـ “عرفات: عام 2000 يشهد إعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس”، 2000/2/1.

ـ “فشل قمة عرفات باراك”، 2000/4/2.

ـ “طلبة فلسطينيون يضربون عن الطعام احتجاجا على اعتقال المخابرات الفلسطينية لزملائهم”، 2000/3/5 (من جامعة بيرزيت بالضفة).

ـ “عرفات يؤكد إعلان الدولة الفلسطينية هذا العام”، 2000/4/8.

ـ “رئيس المجلس الوطني الفلسطيني: الدولة الفلسطينية في الفترة بين 13 سبتمبر و15 نوفمبر المقبل”، حوار خاص مع سليم الزعنون، 2000/7/2.

ـ “المراوغات الإسرائيلية تنسف التسوية”، رأي الأهرام، 2000/7/4.

ـ “طائرات جديدة تشتريها الخطوط الفلسطينية من كندا”، 2000/7/15 (المطار غير موجود بعد والاحتلال لا يسمح به إلى اليوم).

ـ “انهيار قمة كامب ديفيد في اليوم الخامس عشر بسبب تمسك إسرائيل بالسيادة على منطقة المقدسات بالقدس”، 2000/7/26.

ـ “عرفات يطالب بتنفيذ اتفاقيتي أوسلو وشرم الشيخ”، و”ردود فعل فلسطينية غاضبة من تصريحات كلينتون بشأن القدس”، خبران 2000/7/30.

ـ “زعيم حماس يعلن مساندته لمواقف عرفات”، 2000/7/27.

ـ “عرفات يلمح إلى احتمال تأجيل إعلان الدولة الفلسطينية”، و”وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي يكشف وجود تعليمات فلسطينية بمنع أي احتكاك في الضفة وغزة”، خبران 2000/8/1.

ـ “دبلوماسي روسي: للفلسطينيين كل الحق في إعلان دولتهم”، 2000/8/3.

ـ “عزمي بشارة: مصر والسعودية ساندتا عرفات ضد الضغوط”، 2000/5/8 (كان وقتها نائبا بالكنيست).

ـ “القيادة الفلسطينية تجتمع قبل 13 سبتمبر لتحديد الموقف الدقيق لإعلان الدولة”، و”مفاوضات سرية فلسطينية إسرائيلية لبحث عقد قمة جديدة بين عرفات وباراك”، خبران 2000/8/6.

ـ “تقرير عسكري إسرائيلي يؤكد: الرئيس الفلسطيني أمر بمنع أعمال العنف”، 2000/8/8.

ـ “صحيفة معاريف: مبعوث لباراك زار دولا عربية سرا لإقناعها بممارسة الضغط على عرفات”، 2000/8/10.

ـ “هآرتس: العرب تعرضوا لضغوط أمريكية لعدم تأييد عرفات”، 2000/8/14.

ـ “فن الإيهام”، هكذا كان عنوان العمود اليومي للكاتب سلامة أحمد سلامة، “واشنطن تدعو المجلس المركزي (الفلسطيني) إلى إرجاء إعلان الدولة”، الرأي والخبر 2000/8/19.

ـ “اعتقال 16 فلسطينيا في حملات إسرائيلية وفلسطينية ضد حماس”، 2000/8/29.

شهر قبل الانتفاضة

ـ “عرفات وباراك يعقدان أول قمة منذ فشل مباحثات كامب ديفيد”، 2000/9/16.

ـ “السلطة الفلسطينية تتهم إسرائيل بالتحدث بلسانين في عملية السلام”، 2000/9/4.

ـ “قطع العلاقات مع الدول التي تنقل سفارتها إلى القدس في ختام أعمال الدورة الـ114 لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة”، 2000/9/5.

ـ “عريضة لأربعين ألف لاجئ بلبنان تؤكد حق العودة”، 2000/9/9.

ـ “استئناف مفاوضات السلام اعتبارا من اليوم في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل بالتناوب”، مانشيت عدد 2000/9/10.

ـ “وسط ترحيب أمريكي إسرائيلي: المجلس المركزي الفلسطيني يؤجل إعلان الدولة”، 2000/9/11 (في ختام اجتماعاته بغزة وهذا القرار من المجلس للمرة الثانية).

ـ “الجهاد تندد بتأجيل إعلان الدولة وحماس تدعو إلى المقاومة”، 2000/9/12.

ـ “استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية اليوم بالولايات المتحدة”، 2000/9/14.

ـ “متى تستجيب إسرائيل لصوت العقل؟”، رأي الأهرام، 2000/9/16.

ـ “مسؤول فلسطيني يستنكر زيارة شارون للأقصى غدا”، 2000/9/27 (كان رئيسا لكتلة الليكود في الكنيست قبل أن يصبح رئيسا للحكومة بحلول مارس/آذار 2001).

ـ “تحذير من مذبحة ضد الفلسطينيين بسبب اعتزام شارون اقتحام الأقصى اليوم”، 2000/9/28 (بيان لوزارة الإعلام الفلسطينية).

“توم وجيرى”

و”كلام والسلام”

بعد حرب أكتوبر 1973، لعبت الدعاية الصهيونية على أوتار أكذوبة أن العرب -كل العرب- أهدروا مرارا فرص السلام، وهم الذين رفضوا وما زالوا يرفضون “حل الدولتين”، منذ قرار التقسيم في نوفمبر 1947، بينما تبنته تل أبيب وأخلصت لتنفيذه. والمأساة أن هذه “البروباغندا” وجدت من يصدّقها ويتبناها بيننا، بل ويسعى لمداواة “عقدة ذنب” ضحايا بلا ذنب والشعور بالندم والمعاناة والعجز بالمزيد من التفاوض والتنازلات والهرولة إلى التطبيع.

في أفلام “ديزني” يتميز القط “توم” بغباء لا يُحسد عليه، فهو يتلقى الضربات والخيبات من الفأر الذكي الداهية “جيري”، ويعود إلى اللعبة نفسها، وينهزم مجددا. وليس هذا فحسب، فشركة الترفيه الأمريكية الأشهر أعطت لنفسها الحق في مقاطعة الفلسطينيين، لكن من يعودون اليوم إلينا بـ”حل الدولتين”، وكأنه اختراع يبهر ويعجب ويطرب، يراهنون هذه المرة أيضا على حالة “زهايمر قومي” لا شفاء منها، ولا مانع عندهم من استئناف مسيرة “التطبيع” على وقع عودة “الكلام” عن “الدولتين”.

وهو كلام والسلام.

المصدر : الجزيرة مباشر