عودة الزعيم اللبناني “المعتكف” وحسابات ما بعد حرب غزة

سعد الحريري (وسط) بين اثنين من عائلته يحضرون حفل تأبين أقيم لإحياء الذكرى الـ19 لرحيل والده في بيروت. (الأناضول)

تابعت على مدى أيام من بيروت عملية تعبئة مخطط لها بعناية لاستعراض القوة الجماهيرية لأنصار “سعد الحريري” زعيم حزب “تيار المستقبل” رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق المعتكف بعيدا في الإمارات وعن السياسة منذ نحو عامين، وبعدما أعلن تجميد نشاط الحزب.

ولا تخطئ عين مراقب مغزى الانتقال والتبدل في فضاء شوارع العاصمة من بضع لافتات باقية باهتة الألوان تؤيد مقاطعة الرجل وحزبه الانتخابات البرلمانية 2022 والسياسة إلى ما استجد وبكثافة ترحيبا “بالعودة” إلى بيروت.

لافتات بلا حصر، وبعضها عملاق متقن التصميم والصنع يتكرر في مواقع مختارة بعناية، تحمل شحنات عاطفية وبالعامية اللبنانية مثل: “بيروت اشتاقتلك”. وهي على هذا النحو تعيد تمثل وإنتاج العلاقة بين “الزعيم/ الحبيب المحبوب”، وطائفته “السنة”، وجماهيره التي تطلب عودته حاضرا وفاعلا، وأيضا بوصفه “الزعيم المنقذ للوطن”.

ويمكن القول بأن جماعة “الحريري” نجحت في تحقيق تعبئة جماهيرية لافتة جلبت مواردها إلى حدث إحياء ذكرى استشهاد “رفيق الأب” بالعاصمة بيروت 14 فبراير/ شباط هذا العام عند “ضريح الحريري” من مختلف أنحاء لبنان. وهذا على الرغم من الاختفاء شبه التام للحزب/ التنظيم وتوقف “المستقبل ” الجريدة والقناة التلفزيونية منذ سنوات، وما يقال عن تقلص القدرات المالية، بل واستثمارات الرجل والعائلة ذات الطابع الريعي داخل البلد، وإن تبقى لها حضورها بالخارج.

هل للحدث ما بعده؟

الحدث في حد ذاته لا يخلو من أهمية للبنان وتتجاوزه، وسواء أكان في الحال مع تصعيد العدوانية الهمجية الصهيونية على جنوبي البلد ومع استمرار “مناوشات حزب الله” على الحدود تفاعلا مع ما يجرى لغزة وارتباطا بمصير الحرب عليها، أو لجهة أبعد مع ترقب تداعيات هذه الحرب على لبنان ومجمل الإقليم، وما قد تسفر عنه من توازنات وتحالفات واحتمالات وتسويات.

المرجح أن هكذا “عودة في زيارة لأسبوع واحد” لا تحسم استئناف الدور السياسي وفي الحكم عند النظر إلى مستقبل “زعيم” بدا في المختبر العملي أقل حنكة و”كارزمية” من والده الشهيد المغتال “الرئيس رفيق الحريري”، بل وأقل قدرة على إدارة الأعمال والأموال، وحتى الحفاظ على تماسك جماعته وحلفائها.

لكن ما يبدو حدثا لبنانيا خالصا يستدعى التأمل في تعثر “الليبرالية” وأزمتها بدورها في عالمنا العربي أحزابا وزعامات ومنهجا في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلاقات الإقليمية والدولية، فضلا عن اعتلال حال المواطنة، وبؤس غيابها وتشوهاتها.

وعلى الرغم من أن لبنان تاريخيا، ومنذ إعلانه كيانا جغرافيا سياسيا واحدا موحدا عام 1920 ولليوم يشتهر بأكبر مساحة من الحريات وبالتعددية وبالدولة الأقل تغولا على الفرد والمجتمع في محيطه العربي، إلا أنه
ما زال لم يبرأ بدوره من الطائفية و”التوريث الزعامي” وبالتداعيات الكارثية “لرأسمالية محاسيب” يطلق عليها الأشقاء اللبنانيون مصطلح “الزبائنية”. ولذا وفي المحصلة، يستحق أن يضاف “تيار المستقبل” إلى بؤس خيبات ومصائر أحزاب أخرى كـ “الوفد” في مصر وامتدادات وتمظهرات “الحزب الدستوري” البورقيبي بتونس بعد ثورة 2010-2011.

 

قلب مهجور يلتمس دفئا

من أنصار الزعيم ولو مؤقتا

على خلاف العام الماضي، حضرت جماهير “سعد الحريري” ولأجله هذه المرة بكثافة إلى ساحة الشهداء بوسط بيروت وصفتها صحيفة “النهار” البيروتية بأنها “حشود فاقت التوقعات”، وذلك عند زيارته لـ “ضريح” والده مع مناسبة الذكرى السنوية التاسعة عشر للاغتيال (14 فبراير/ شباط 2005). وهذا على الرغم من تهاطل الأمطار بغزارة، وكونه يوم عطلة رسمية في البلاد.

كما تقاطرت على “بيت الوسط” مقر “الزعيم الزائر لبلده” وفود الداخل من كبار رجال الدولة وقادة الأحزاب والمجتمع المدني، وأيضا سفراء وممثلي بعثات دبلوماسية. في كل هذا وهنا وهناك ما يحمل رسائل ويحتمل قراءات وتأويلات.

ولا يغيب عن المراقب بداية، وقبل محاولة فك شفرة ما جرى عند “الضريح” و”البيت”، كون أن جدران الفضاء المكاني العمراني الذي شغله لبضع دقائق هذا الحشد المرحب “المشتاق” لزعيمه احتفظت بكل ما هو “عكس وضد”. فمن جانب، يجاور “الضريح” الملتصق بجامع “الأمين” كل ما يجهر بأزمة قلب بيروت التجاري النيوليبرالي “سولدير”، الذي باتت تخلو معظم مكاتبه ومتاجره الفخمة الحديثة من الحياة.

وهكذا يضرب الخواء والكساد منذ سنوات درة “صعود الحريرية” عند زواج السلطة وبزنيس المقاولات والريع وبصمته الأبرز على عمران بيروت. ولا تجد أبنية “السوليدير” وشوارعه من يتقدم لإعادة لها الحياة على الرغم من هبوط أسعار إيجارات مكاتبها ومتاجرها للحضيض، وعلى خلاف بلد أسعاره مجنونة.

ومن جانب آخر، لا تجد جدران هذا القلب المهجور ما يزينها ولليوم إلا عبارات، باللون الأسود الفاحم وبخط اليد، خلفتها ثورة 17 أكتوبر/تشرين أول 2019 الشبابية المجهضة. وكأنها ما زالت تردد أصداء صراخ الهجاء والسخط السياسي الاجتماعي وضد “دولة الطوائف” وزعمائها و”مؤسساتها اللامؤسسات”، وقد لخصته العبارة العامية الشهيرة “كلن يعني كلن”.

 

الرسائل الحاضرة والغائبة

هذه العودة/ الزيارة تعبر عن شعور العائد ومن حوله بنقطتي قوة: النقطة الأولى أن زعيما لم يتمكن أن يملأ خلال ما مضى من “اعتكاف” وتعليق نشاط سياسي مكان “الحريري” بين الطائفة السنية. بل أصبح ملحوظا أن بين قيادات و”مؤسسات” دينية واجتماعية في الطائفة من يجاهر اليوم بطلب عودة من غادر وانسحب، بعدما امتنعوا سابقا. وهو أمر لا يدركه وحده “الحريري”، بل وأيضا يدركه ويعترف به العديد من مكونات التركيبة اللبنانية وقوى بالخارج.

ويترجم هذا الطلب نفسه، عندما نستعرض عبر الصفحة الرسمية لسعد الحريري على مواقع التواصل الاجتماعي قائمة القيادات السياسية والدينية والاجتماعية التي استقبلها في “بيت الوسط” بعيد عودته، أو من استقبلوه بحفاوة واهتمام كرئيس حكومة تصريف الأعمال “نجيب ميقاتي”. وهذا وإن كان أبرز المتغيبين عن هذا الاستقبال والترحيب وإعادة الاعتراف بالشرعية السياسية والطائفية “للحريري “حزب الله” وقياداته، وامتدادا لغياب بدأ عند مناسبة “الضريح”.

كما يتضح تدفق لفيف من سفراء الدول إلى “بيت الوسط” وللتداول مع “الحريري العائد” في تطورات لبنان والمنطقة. ويبرز من بينهم سفراء الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا ومصر والأردن. ولكن يظل الغائب الأهم هو السعودية، سواء عند “الضريح” أو “بالبيت”.

ولذا يبدو “الحريريون” في حالة انتظار لخطوتهم التالية بشأن حسم توقيت تحويل العودة من سمة “زائر” إلى “مقيم”. وهذا الحسم على الأرجح محكوم بالأساس بالعامل الإقليمي الخارجي. والحقيقة أن الرياض، وعلى نحو خاص ولي العهد، لم تبد بشكل حاسم بعد تغييرا في غضبتها على “سعد الحريري” منذ نحو 7 سنوات. وثمة هنا وساطات دولية جارية تعززها مستجدات المنطقة.

وفي هذا السياق، ظهرت إشارات متناقضة ليس من الحكمة قراءتها بتعجل أو خفة. ففي أعقاب ظهور “سعد الحريري” على شاشة فضائيتي “العربية” و”الحدث” وما صحبها من تأويلات، خرجت الطبعة البيروتية من أول عدد لصحيفة “الشرق الأوسط” بعد وصول “الحريري” إلى لبنان خالية تماما من أي تغطية أو اهتمام.

 

رسول الاعتدال

في أتون الحرب

أما نقطة القوة الثانية والتي يجرى تسويقها، فتتلخص في كلمة “الاعتدال”. وقد تجلت سواء خلال حوار “الحريري” مع الفضائيتين أو مع العديد من تصريحاته المقتضبة أمام أنصاره وللصحفيين اللبنانيين. وخلالها جميعا بدا “الزعيم العائد الزائر” وهو يؤكد على أنه رسول الاعتدال “الغائب”، أو بالأدق “المهدد”، وفي هذا الظرف الزمني الإقليمي على نحو خاص.

وأيضا عند تحذيره من ترك شباب السنة بلبنان نهبا للتطرف في سياق انفجار الصراع الدموي واحتمال توسعه بالمنطقة والحرب على الشعب الفلسطيني المدعومة من الإدارة الأمريكية وحكومات غربية. وغير خاف على المراقبين ببيروت التعاطف الملحوظ بين السنة اللبنانيين مع المقاومة في غزة، وعلى نحو يتجاوز التنظيمات الإسلامية والقومية العربية والناصرية، وبما في ذلك مشاركتهم الملحوظة في جنازة ووداع الشهيد “صالح العاروري”.

يصح القول بأن “الحريري” تجنب اتخاذ مواقف إزاء المواجهة الجارية بجنوب لبنان أو التهديدات الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، امتنع عن الاصطدام المباشر “بحزب الله” أو انتقاده، ومن هذه الزاوية تحديدا. كما ابتعد في تصريحاته عن الاصطفاف المعارض بين النخبة السياسية اللبنانية ضد “حزب الله”، والذي زادت انتقاداته للحزب وتحذيراته بمرور الوقت ومع التصعيد العسكري من” جر لبنان إلى حرب مدمرة” و”مصادرة قرار الحرب من الدولة مجددا”. وبصفة عامة بدا “الحريري الابن” يميل إلى مجاراة المشاعر الشعبية عند جمهور اللبنانيين تضامنا مع غزة، وبين طائفته وما يتجاوزها.

وفي هذا السياق، يتعزز طلب قوى إقليمية ودولية على عودة “الحريري” للمسرح السياسي ولإنهاء اعتكافه وابتعاده، وهي تقدر أهمية رسالة “الاعتدال” هذه. ويحرك هذا القوى الحاجة لاحتواء ما قد يتولد عن الفصل الأخير الجاري من تراجيديا البربرية الصهيونية عند قطاعات بين شباب السنة، وما قد تجره المقارنة عندهم مع ما أظهره “شيعة” في مقاومة هذه البربرية تضامنا مع غزة، ومن جنوب لبنان إلى العراق واليمن. وتفيد تأويلات في صحافة بيروت وبين نخبها بأن عودة “الحريرية” ومعها ما كان من ثقلها سياسيا على صعيد سنة لبنان والبلد أمر مطلوب في تسويات ما بعد توقف الحرب على غزة.

 

طبخة لم تنضج بعد

إذن العودة مؤقتة لكنها قد لا تخلو مما بعدها، وتكتنفها حسابات معقدة تتعلق باللحظة وباحتمالات الآتي في لبنان والمنطقة، وإن كانت “الطبخة” لم تنضج بعد. ولذا جاء رد “الزعيم المعتكف” على مناداة أنصاره له بعودة دائمة وللسياسة والحكم بكلمات موجزة بالعامية اللبنانية: “كل شي بوقته حلو”.

ولعل هذا التوقيت ينتظر رسائل إقليمية أوضح، وأهمها من الرياض. وأيضا ما سيصل إليه التصعيد بين “حزب الله” و”إسرائيل”. وهو بدوره تصعيد تقاطع مع مشهد العودة/ الزيارة في “صفد” و”النبطية” مع تهديد وزير الحرب الإسرائيلي “جالانت” بإعادة بيروت إلى الحرب والدمار، وبوقاحة قال: “طائرات سلاح الجو تحلق الآن في سماء لبنان وتحمل قنابل ثقيلة لأهداف بعيدة”.

فهل كان هذا التقاطع محض صدفة؟

المصدر : الجزيرة مباشر