رفح التي في خاطري وذاكرتي

أثار العدوان الإسرائيلي على مسجد الهدى برفح (الأناضول)

عندما انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلية من رفح في سيناء، وسلمتها للقوات المصرية بمقتضى معاهدة السادات/ بيجين، تركت وراءها نحو خمسة آلاف لاجئ فلسطيني. وهؤلاء كانوا مهجرين إلى مخيم “كندا” بفعل سياسة وممارسات الصهيونية العنصرية الرامية للتخلص من أهل البلد وأصحابه تحت شعار “أرض أكثر وعرب أقل”، وبعضهم جرى طرده من قطاع غزة والنقب عنوة قبل يوم واحد من انسحاب 25 إبريل/نيسان 1982. وعاشوا في ظروف أكثر بؤسا من أهلهم وأبناء العائلة، بل والأسرة نفسها، في المدينة التوأم لشقيقتها بمصر: “رفح” فلسطين، الواقعة جنوبي قطاع غزة على الحدود الدولية.

وقادت الصدفة والرغبة في الإبداع مخرجا مصريا شابا حينها، هو الفنان حسام علي، الذي أوفده المركز القومي للسينما بالقاهرة لعمل فيلم تسجيلي وثائقي دعائي عن استكمال الانسحاب الإسرائيلي من العريش بسيناء ربيع 1982، إلى أن يحمل الكاميرا إلى حيث السلك الشائك الفاصل بين “الرفحَين”.

وهكذا وثق تحت عنواني “وثائق فلسطينية” و”أشواق الأهالي” بفيلمه “ثلاثية رفح” بؤس ومعاناة هؤلاء اللاجئين المهجرين المشردين في العراء نساء وأطفالا وشيوخا، ومحاولاتهم بلا كلل التواصل على جانبي الأسلاك الشائكة، ولو برفع الصوت عاليا وإشارات الأيدي عن بعد.

 

فيلم ومهمة صحفية

قبل 41 سنة

وكنت بين من شاهدوا عرضا للفيلم بقاعة مركز الثقافة السينمائية في شارع شريف بقلب القاهرة بعيد إنتاجه مباشرة، وهو بدوره كالجهة المنتجة يتبع وزارة الثقافة. ولا أعرف هل اختلفت أحوال المركزين الآن بما يحول دون الإنتاج والعرض على نحو ما كان؟

وربما بذات دوافع المخرج أو تأسيا بفعلته وتأثرا بما شاهدت، وجدتني بدوري صحفيا شابا أتجاوز حدود تكليف ومهمة التغطية الإخبارية لمؤتمر أعضاء برلماني وادي النيل (مصر والسودان) بالعريش، فأستقل سيارة أجرة “بالنفر” إلى رفح في أغسطس/آب 1982، قاصدا مخيم “كندا” وناسه.

وهو ما عدت لأكرره بمفردي أيضا في يناير/كانون الثاني 2009، عندما زرت الناس في منطقة الحدود برفح المصرية أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في عهد حكومة “أولمرت” رئيسًا و”باراك” وزيرًا للدفاع، وليس رئيس الحكومة الحالية “نتنياهو”. وهذه ملاحظة على الهامش مهداة لمن يروجون لأن الأخير وحده هو المشكلة.

وما حدث في المرة الثانية والأخيرة أنني انتقلت بالطريقة نفسها، في وضوح الصباح الباكر مرورا بحاجز أمني، وبعدما حيل بين وفد إغاثة كنت معه وبين مغادرة العريش إلى معبر رفح. وهكذا تمكنت من زيارة المكان نفسه بعد اختفاء المخيم. وكتبت عن شطور (جمع شطر) عائلات وأسر لاجئين فلسطينيين ما زالت هناك، وعن بيوتهم التي تتوزع بطول الحدود قرب الخط الفاصل بين “الرفحين”. وهذا بعدما كانت رفح مدينة واحدة تحت الإدارة المصرية وأمانة عند جيشها وفي حراسته بين “نكبة 48″ و”نكسة 1967″، وفي مسؤوليتها و”رقبتها”.

وكتبت عن كيف تتضرر بيوت هذه “العائلات المشطورة” وأطفالها من قصف الطائرات الإسرائيلية وغاراتها؟، لكن عيون سكانها ومشاعرهم ظلت، كما احتفظت بها ذاكرتي منذ الزيارة الأولى، معلقة بأهاليهم وأحبتهم في رفح فلسطين، وما يجري لها ولهم، وبحق العودة إلى مدنهم وقراهم في الأرض المحتلة عام 1948 فعام 1967، وبحلم الوطن الواحد بعد لملمة أشلائه، مع التئام شمل الشقيق بشقيقه والأب والابن والأقارب.

 

بين 1982

و2009 و2024

 

تقدم بنا العمر، لكن لا أظن مرور كل هذه السنوات يقتل الرغبة والعزم على العودة إلى رفح، وإلى هذه البقعة ذاتها على الحدود، بحثًا عن أثر للناس والحياة والمعاني هناك. لكن كيف؟ وقد استجدت متغيرات تستحيل معها هذه المهمة الصحفية الملحة الواجبة. وعلى الرغم مما تشهده غزة منذ 7 أكتوبر 2023 من أحداث جسام، وتحديدا هذه الأيام مع تلويح حكومة “نتنياهو” والجيش الصهيوني باجتياح رفح فلسطين، وبعدما نزح إليها نحو 1,4 مليون لاجئ كملاذ أخير، وإلى آخر مساحة بالقطاع، ولو لم تتجاوز 64 كيلومترا مربعا.

أولا، منذ نحو عشر سنوات وفي سياق “الحرب على الإرهاب”، أصبح ممنوعا منعا باتا على الصحفيين، والمصريون منهم، عبور قناة السويس إلى شمال سيناء. وأصبح مجرد بلوغ “العريش” كـ”العنقاء والخل الوفي” في أمثال العرب الأقدمين.

وثانيا، لم يعد هناك أثر لا لمخيم “كندا” ولا لمنازل قرب خط الحدود، بعمق كيلومترات داخل الأراضي المصرية. ولا يمكنك تقصي إلى أين ذهب الناس من هناك، وما هي مصائرهم؟

وثالثا، تابعت عن كثب كيف انتهت محاولات ومساعي نقابة الصحفيين المصريين لمرافقة مواد الإغاثة إلى “معبر رفح” أو حتى “العريش” منذ بدء حرب الإبادة والتهجير القسري “الترانسفير” الجديدة على قطاع غزة ومنذ أربعة أشهر، ومعها مشروعات تضامن وكسر حصار أخرى من النقابة، ومن بينها مبادرة لعقد محاكمة شعبية لـ”نتنياهو”. ولن أزيد، و”في فمي ماء”.

ورابعا، أعلم أنا وغيري أنه لم يعد ممكنا ما كان قبل العشرية الأخيرة، حتى بالنسبة لنقابة الأطباء المصريين واتحاد الأطباء العرب، بعد أن كانا يوفدان بعثات بالمئات إلى داخل قطاع غزة في أزمنة الحروب من أجل علاج الجرحى والمرضى.

ولكل ما سبق ولمتغيرات أخرى، تبدو رفح الفلسطينية اليوم أكثر ضعفا وهشاشة أمام عدوان جديد. وما بالنا بهول وخطورة النيات والأفعال الصهيونية هذه المرة. وللأسف فإن رفح هذه تدفع غاليا الآن وعلى نحو خاص، نتائج المبالغة في عزل وحصار شقيقتها رفح الفلسطينية على الجانب الآخر من الحدود، ومعها كل شمال سيناء، بما في ذلك الحصار الإعلامي والصحفي. وكأن رفح فلسطين كان ينقصها المزيد القادم من ناحية سيناء فوق حصار غزة كلها. وأيضا هي تدفع ثمن التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، ولو كان تحت لافتة “مكافحة الإرهاب”.

وعلاوة على هذين الأمرين، فهذا الثمن القاسي الظالم، وظلم ذوي القرب أشد مرارة، تدفعه اليوم رفح فلسطين وسوف تدفع أكثر وأخطر غدا جراء ما تراكم نتيجة سياسة خاطئة ظالمة بالأصل، تأخرت مراجعتها الواجبة في القاهرة عقودا تلو عقود.

 

عودة إلى شهادات “الرفحيين”

تسمح العودة اليوم إلى نصوص ما حققت وكتبت ونشرت في 1982 و2009 من رفح المصرية (*)، وما تضمنته من أقوال وشهادات المهجرين الفلسطينيين إليها من أصل 500 أسرة، بجملة نتائج أو استخلاصات، من بينها:

  • كان مقررا وفق بروتوكلات المعاهدة المصرية الإسرائيلية وعمل اللجان العسكرية المشتركة إعادة هؤلاء اللاجئين المهجرين إلى رفح فلسطين وغيرها بالقطاع والنقب، ولم شملهم مع ذويهم وتعويضهم خلال ستة أشهر من توقيعها، وقبل حلول 25 أكتوبر 1981. لكن كعادتها ظلت سلطات المحتل الإسرائيلي تماطل وتهدر المواعيد.
  • بل ذهبت بالوقيعة والدس إلى إلقاء مسؤولية المماطلة في إعادتهم إلى داخل فلسطين على القاهرة الرسمية، وعلى أمل تيئيس هؤلاء الفلسطينيين من العودة. ويحفظ التحقيق الصحفي 1982 تصريحا خصه به اللواء “منير شاش” أول محافظ لشمال سيناء رحمه الله. وقال نصا: “الطرف الآخر (يقصد إسرائيل) يثير عراقيل مختلفة وكثيرة لأنه لا يريد تدعيم الوجود الفلسطيني في غزة”.
  • بمجموع ثمانية مصادر من المهجرين لرفح مصر في عام 1982 ومثلهم عددا عام 2009 جاء التعبير واضحا عن التمسك بالعودة وتعجلهم لها. وأيضا بما يعكس الوعي الجماعي بأن معاناتهم تهون مقارنة بما تواجهه رفح فلسطين من معاناة واعتداءات صهيونية. ولعل هذه الجملة تلخص معاني كبرى حين قال صاحبها الشاب حينها: “متى تحل القضية؟ لن تحل بالكلام ولا على طاولة المفاوضات. والقضية ليست رفح وحدها، القضية هي الشعب الفلسطيني الأم”.
  • أكد غير مصدر خلال عدوان 2009، كما يوثق التحقيق الصحفي، انتهاك الطائرات الحربية الإسرائيلية للأجواء المصرية فوق رفح وما بعدها، دون رادع.
  • تضمن نشر التحقيق الأول 1982 التصريح بشكاوى من تضييقات أمنية ضد اللاجئ الفلسطيني في التنقل واستخراج تصاريح الزيارة والإقامة فوق الأراضي المصرية، وما تكلفه من أموال فوق الطاقة، وفوق المقدار المقرر رسميا.

 

لا تكفي الكلمات والبيانات

في مواجهة الخطر الماثل حاليا على رفح فلسطين، وقد ضاقت وانفجرت عددا ومعاناة بمزيد من اللاجئين المهجرين الضحايا، لا تكفي الكلمات ولا البيانات. وخصوصا عندما تصبح “حمالة أوجه”، فيفسرها بعض أصحاب الوجع وتحت نيران الخطر والموت والعطش والجوع والحصار بأنها بمثابة “إبراء ذمة” قبل حدوث الأسوأ. وفي الظن أن مصر، على الرغم مما جرى لها وبها، تملك العديد من أوراق الضغط لكف يد وإجرام المعتدي، أمام هذه اللحظة الخطيرة على رفح وكل غزة وفلسطين، إن شاءت.

ولو توافرت الإرادة، لفتحت مع غيرها من الدول العربية المسؤولة تاريخيا عن القضية الفلسطينية ملفات تحسين أوضاع اللاجئين لديها، وليس فقط حمايتهم من مزيد التقتيل والتشريد والشتات. وأمامي دراسات علمية موثقة باللغتين الإنجليزية والعربية، وبعضها أكاديمي بل وبالجامعة الأمريكية بالقاهرة، طالما نبهت ودعت إلى الوفاء بحقوق أشقائنا الفلسطينيين لدينا وفق القوانين والاتفاقات الدولية بشأن اللاجئ، وتنفيذا للبنود الخمسة في بروتوكول الدار البيضاء لمعاملة الفلسطينيين بالدول العربية، الموقع عليه من الحكومات في إطار الجامعة العربية يوم 11 سبتمبر 1965.

ولا يجوز ولا يليق أن تنكر أي سلطة فوق أرض عربية عليهم، وأينما كانوا، حقوقهم في الإقامة والتنقل والعمل ووثائق السفر، وأيضا تيسير التعليم والعلاج. ولا يجوز ولا يليق أن يشعروا بالتمييز السلبي عند المقارنة بمواطني البلد الشقيق المضيف. وهذا فضلا عن الحق في الحماية والحياة، وضمان الاحتفاظ بهويتهم الوطنية، وبكونهم لاجئين في انتظار العودة والتعويض*.

في 1952، تغنت “أم كلثوم” من أشعار “أحمد رامي” بهذه الأبيات في قصيدة “مصر التي في خاطري وفي فمي”:

ـ “لا تبخلو بمائها على ظمي

وأطعموا من خيرها كل فم

.. أحبها بالموقف الجليل

من شعبها وجيشها النبيل”

وليس صدفة أن تذكرنا هذه القصيدة “بحق الحياة” و”بعهد الوفاء في نصرة الحق المبين”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) التحقيق الأول بعنوان “رفح.. مدينة الرؤية عبر الأسلاك الشائكة” منشور في جريدة “الأهالي” المصرية في سبتمبر 1982، والثاني بعنوان ” بيوت في رفح المصرية لا تنام من شدة القصف الإسرائيلي”، بجريدة “الوقت” الصادرة من البحرين، عدد 16 يناير/كانون الثاني 2009.

المصدر : الجزيرة مباشر