الصينيون بين الحنين إلى الماضي والهروب للخارج!

الرئيس الصيني (غيتي)

يظل التعليم الجيد أفضل استثمار تتجه نحوه الأسر الصينية. عندما يقول العرب “اطلبوا العلم ولو في الصين”، فإنهم يرددون “اطلبوا العلم ولو في الغرب”. رغم توجسهم الفطري من الغرباء ومخاوف النظام الشيوعي من تعرُّض الأجيال الجديدة لفتنة الحياة بدول غربية تفرض ثقافتها على الآخرين، فإن هناك حرصا شعبيا ورسميا على ارسال نحو مليون طالب للدراسة في الخارج سنويا.

اعتادت الحكومة الانفاق بسخاء على المبعوثين خلال الأعوام من 1990 إلى 2014، خاصة المتجهين إلى الولايات المتحدة لدراسة العلوم التطبيقية الحديثة. بلغ عددهم 400 ألف طالب سنويا. شهدت تلك الفترة شغفا من الدولة بعودة المبعوثين إلى ديارهم، لتشغيلهم بالحكومة وتقديم المشورة في السياسات العامة. تحوّل بعضهم إلى نخبة تقود التطور التكنولوجي. رأى الحزب الشيوعي أن المبعوثين إحدى أدواته للتواصل مع الشعوب وإقامة حوارات ثقافية تهيئ قيادة الصين للعالم. قليل من الطلاب فضلوا البقاء في الغربة، فأغلبهم عاد ومعه أجيال قديمة فرت مع أسرها أثناء الحرب الأهلية أو بعد انشاء الدولة وفرض الحزب الشيوعي قبضته على السلطة.

سفر بلا عودة

يشير التقرير السنوي عن هجرة الصينيين لمركز أبحاث الصين والعولمة في بيجين (CCG) إلى أن الصين هي أكبر بلد مصدّر للطلاب الدوليين حتى عام 2022. يبين التقرير انتشار ظاهرة اتجاه سفر بعض الطلاب في اتجاه واحد بلا عودة. تفرض الحكومة إجراءات قسرية تحول دون امتناع الدارسين عن العودة دون دفع تكاليف البعثة، وغرامة تصل إلى 5 ملايين يوان، يلتزم المبعوث متضامنا مع أسرته بتحملها، فلا يصبح أمامه إلا الدفع أو إلحاق العار والزج بأهله في المحاكم.

أدى الهروب المتكرر للمبعوثين والتراجع الاقتصادي إلى خفض الحكومة لعدد البعثات والأفراد. مع نمو الطبقة المتوسطة وزيادة حدة التنافس بين الخريجين على طلب الوظائف، يظل حلم الأسر المتوسطة ارسال أبنائهم للتعلم، لاقترانه بحصولهم على وظائف ورواتب هائلة، وإن استقروا فقد فازوا بالعيش في مجتمعات أكثر حرية وأمنا.

ساعدت فترة الازدهار الاقتصادي، التي بلغت ذروتها عام 2018، على تنامي الاستثمار في التعليم بالخارج. رأيت أصدقاء من كبار الموظفين والدبلوماسيين يسعون لدى نظرائهم ورجال أعمال، للحصول على منح أو ترشيحات بقبول أولادهم بجامعات أمريكية وغربية أثناء فترة عملهم بالقاهرة. كم من مرة شاهدنا بعض الفنيين المهرة وطباخين ومدربين رياضيين واختصاصيي طب صيني وتسويق، ممن استغلوا وجودهم في مصر ودول المنطقة، كنقطة عبور مؤقتة والسفر إلى شمال أوروبا وكندا والولايات المتحدة.

“القمع المالي”

تحاول الصين القوة الاقتصادية الكبرى الصعود إلى قمة العالم سياسيا وعسكريا، بينما ترتفع ظاهرة لجوء أبنائها إلى الدولة رقم واحد أو الدول الكبرى الحليفة لها. أصدرت الحكومة قرارات عام 2021، أدت إلى خروج عشرات الآلاف من الأجانب المقيميين من مدنها، بعد حظر عملهم في مجالات التدريس والتسويق والأبحاث والإدارة والتكنولوجيا، بما يتناقض مع دعوة أطلقها الرئيس شي جين بينغ في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لـ50 ألف شاب أمريكي للمشاركة في برامج التبادل الثقافي والدراسة داخل الصين خلال السنوات الخمس المقبلة.

تعكس ظاهرة هروب الصينيين من بلدهم، بعد 3 عقود من موجات الهجرة المعاكسة، حالة التراجع التي أصابت الصين عقب انتشار وباء كوفيد-19، وانقضاء عصر الذروة التي بلغتها الأسر المتوسطة، فأصبحت تعاني الإحباط من انتشار البطالة بين شبابها خاصة متوسطي العمر، وانفجار فقاعة العقارات، وتراجع الأسهم والاستثمارات، وأزمات تدفعهم إلى بيع أصولهم لمواجهة عبء الديون وارتفاع تكاليف المعيشة.

يفسر صاحب نوبل في الاقتصاد 2008 (بول كروجمان) في مقاله بصحيفة “نيويورك تايمز” في يناير/كانون الثاني الماضي الأمر بأن “الصين تدخل حقبة من الركود وخيبة الأمل، لأن الاقتصاد في ورطة إثر تدخل الإدارة السيئ والمتعسف الذي يخنق المبادرات الفردية، لصالح رؤية إدارية فقيرة ومستبدة، تمارس قمعا ماليا، بما يخلق فرصا للمقترضين والمستثمرين الذين تفضلهم السلطة، ويخفض دخل الأسر ويحرمهم من عوائد الاستثمار الذي تسيطر عليه الحكومة”.

الشرق يشرق والغرب يخفت

يتسبب “السقوط الحر للطبقة الوسطى” في محو ثروتهم، التي كانت تتوجه إلى رفع مستوى التعليم بالدرجة الأولى ثم الاستثمار العقاري، أو سوق الأسهم وإقامة شركات صغيرة تنمو بسرعة، والقدرة على الاستثمار وتوفير فرص عمل للملايين بمجتمع يفتخر رئيسه بأنه “سيقود الشرق ليزداد إشراقا، بينما نور الغرب يأفل”.

ارتفع طلب الشباب على السفر، فمليون منهم يعملون في إفريقيا، وملايين استقرت في أوروبا وأستراليا وماليزيا وغيرها، ويبحث الأغنياء عن إقامة دائمة في سنغافورة واليابان ونيوزيلندا وكندا ودبي. في وقت تقلصت فيه فرص تأشيرات المنح الدراسية للولايات المتحدة، ترتفع معدلات طلب اللجوء السياسي عبر رحلات شاقة وخطرة لآلاف الأسر.

كشفت بيانات حرس الحدود الأمريكي، في يناير 2024، عن عبور 24 ألف صيني الأسلاك الشائكة الممتدة على الحدود مع المكسيك عام 2023، بالمقارنة مع 15 ألف صيني أُلقي القبض عليهم أثناء الدخول بطريق غير شرعية خلال عقد كامل حتى عام 2022. يعيش المهاجرون في ملاجئ للإيواء على الحدود، وبعضهم تمكن من العبور والمشاركة في مظاهرات أثناء وجود الرئيس”شي” بمدينة فرانسيسكو في كاليفورنيا، في نوفمبر الماضي، للمطالبة بتنحيه، محتجين على تسبب سياساته أثناء فترة كوفيد-19 بفقدانهم ثرواتهم ووظائفهم.

الحنين إلى الاشتراكية

تستغل الصحف الأمريكية الكبرى قبل الشعبية الظاهرة، للتشهير بقدرة القيادة الصينية على مواجهة أزمة اقتصادية، تدفع الشباب إلى “السير على الحبل والأشواك”، للهرب من بيجين إلى أمريكا عبر الإكوادور وبنما والمكسيك. يسابق عشرات الآلاف منهم اللاجئين من المكسيك وفنزويلا والإكوادور وكوبا و2.5 مليون آخرين لعبور حدود الولايات المتحدة.

يستخدم الأمريكيون بعنصرية القوة المفرطة لمنع اللاجئين من دخول “أرض الأحلام”، ويُرحّلون كثيرا من طلاب الدكتوراه والماجستير الصينيين الحاصلين على تأشيرات من المطارات مع حبسهم انفراديا دون سبب أو عذر قانوني، في إطار منافسة عمياء بين الجمهوريين والديمقراطيين على منع المهاجرين من دخول أراضيهم.

تخشى “أمة المهاجرين” دخول المهاجرين خوفا من تزايد أزمتها الاقتصادية، ويهرب الصينيون خوفا من العودة إلى براثن الفقر المدقع، لذلك لم يعد غريبا أن نرى أصدقاءنا يكرهون الرأسمالية، ويطالبون بعودة الاشتراكية إلى الصين، حيث تؤمّن الدولة لأبنائهم التعليم الجيد والمواصلات والسكن والطعام الرخيص والعلاج المجاني.

المصدر : الجزيرة مباشر