هذا هو وائل الدحدوح.. ثمن أن تكون صحفيًّا في غزة!

الزميل وائل الدحدوح وهو يؤدي عمله تحت القصف، عندما تتحول الصحافة إلى رسالة (الفرنسية)

من الوارد أن ينتمي أحد لمؤسسة ما فيصير فخرا لتلك المؤسسة، ومن المقبول أن ينتمي أحدهم لمهنة ثم تكون هذه المهنة وسام شرف على ممتهنها، أما أن تنتمي المهنة إليه فيصير لها عنوانا ضخما مضيئا بأكاليل الشهادة، فهذا هو وائل الدحدوح.

رجل من غزة، حمل صفاتها وصفات أهلها بجدارة، كل معاني الصبر والثبات والصمود والإصرار على إكمال المهمة المستحيلة على أرض تناضل منذ عشرات السنين، ليس للوصول إلى حريتها فقط، وإنما لتحرير كافة المقدسات التي هي مسؤولية المسلمين جميعا على الأرض من مشرقها إلى مغربها.

ثلة من البشر أخذوا على عاتقهم تحرير وطن، وتطهير تاريخ أمة غفت طويلا فأصبحت عبئا على قضية تمسها في المقام الأول.

ثلة من البشر يعيشون على مساحة محدودة من الأرض الطيبة، التي يمكن أن نطلق عليها أيضا أرض الدماء، فليس هناك وطن بذل في سبيله ما بذل في سبيل فلسطين ومقدساتها، وكان من نصيب شعبه الذي يقطنه على مدار التاريخ جهاد مقدس لا يكاد يتوقف، ليكون ميزانا لإيمان الفئة المؤمنة في الأرض، ليسوا عدة ملايين، بل مليونين من البشر اختاروا البقاء في تلك البقعة من أرض الرباط ليكونوا خير المرابطين، كل منهم يتمنى أن يكون أول قافلة الشهداء، بل يعلم أن الدور عليه آت لا محالة، يرفضون الهجرة والنزوح حتى لو صبت عليهم السماء موتا، ليفقد من بقوا منهم أحياء عائلات بأكملها، منهم من نعرف والكثير منهم لا نعرفه، يسلمون بعضهم بعضا للموت شهادة في سبيل الله، ومنهم وائل الدحدوح الصحفي بقناة الجزيرة التي قدمت إعلاما مهنيا قام بالتغطية على كل إعلام آخر.

باختصار، نقلت المعركة إلى الشعوب على الهواء مباشرة على مدار الساعة بمهنية غير مسبوقة، قام بها أمثال الدحدوح وشيرين أبو عاقلة وغيرهم ما زال ينتظر، حق للصحافة أن تفخر بأن من بين كوادرها حمزة ووائل وشيرين، بل صار واجبا على البشرية أن تفخر بأن هناك مهنة من بين رجالها هؤلاء الرجال.

الصحافة في أرض النضال

“هذه طريق اخترناها طواعية وسقيناها بأغلى ما نملك، سقيناها بالدماء، حمزة لم يكن بضعا مني، بل كان كلي، حمزة كان الروح الروح، نحن مشبعون بالإنسانية وهم مشبعون بالقتل، من جديد، هذه دموع الإنسانية، دموع الكرم والشجاعة وليست دموع الخوف والاستكانة”.

تلك هي كلمات الصحفي وائل الدحدوح في رثاء ابنه الصحفي حمزة الدحدوح، وأما كلمات أم زميله الشهيد الصحفي مصطفى ثريا وهي تحمله وتنعاه فهي “اللهم إني رضيت بما قسمت لي يا الله، رضيت أن يكون ابني من الشهداء” .

ولو تابعت لوجدتها هي كلمات كل أم وكل أب وكل أخ وكل زوجة، لقد كان قدر أهل فلسطين الشهادة والتضحية والبذل، وكان مصير الصحفيين منهم دفع الثمن الأكبر بالفقدان والخذلان، لا لشيء إلا لمنع وصول الحقيقة إلى الناس بعدما سيطر الكيان عشرات من السنين على الإعلام بوجه عام والصحافة بوجه خاص في العالم، ورسم لها توجهاتها وأهدافها حتى استطاعت بعض المؤسسات الصحفية أن تنفلت من ربقة تلك التبعية وتفرض إعلاما حرا ومحترما في منطقة الشرق الأوسط برجال حملوا فكرة المقاومة الفكرية، فكان الصحفي في أرض النضال مناضلا، وفي أرض الحرب محاربا، وفي أرض القتال حاملا روحه على كفه في سبيل تبليغ الحقيقة كاملة غير منقوصة وغير مشوهة كما كان يحدث قبلا.

لقد بلغ عدد شهداء الصحافة في حرب الطوفان ضعف ما بلغه عدد شهداء الصحافة في الحرب العالمية الثانية التي مات فيها تسعة وستون صحفيا، إذ إنه منذ السابع من أكتوبر فقد مئة وتسعة من الصحافيين حياتهم في قطاع غزة برصاص جيش الاحتلال الصهيوني كي يسكتهم إلى الأبد فلا تنتقل الصورة في سابقة لم يعرفها العالم من قبل، لكن الخبر ما زال ينتقل بأيدي غيرهم، وها هو الدحدوح يتوعد بالاستمرار والثبات بعد مقتل ثلاثة من أبنائه وزوجته وإصابته هو شخصيا، في حين لا تزال جرائم القصف والقنص التي تستهدف الصحفيين على وجه الخصوص مستمرة على مرأى ومسمع من العالم.

إن الصحافة بهؤلاء المناضلين لم تعد كلمة وخبرا وتحليلا، بل صارت رصاصا في قلب الظلم والظالمين لا يقل في زلزلته عن قوة الياسين 105.

ليسوا آخر الشهداء

إن الحقيقة موجعة دوما لأعدائها، وما دامت هناك حروب وصراعات، فهناك دوما طرف يحارب الحقيقة كما يحارب عدوه، وعلى مدى التاريخ ظل هؤلاء المتصدرون لمعركة الوعي والتغيير الفكري عرضة لأعنف المواجهات بالرغم من أن كل ما يملكونه هو “كلمة” يجب أن تصل للشعوب لتعرف وتتابع وتعي، ومن هؤلاء الصحفي جبر أبو هدروس مراسل قناة القدس اليوم، الذي استشهد في الشهر المنصرم بقصف قوات الاحتلال لمنزله بشكل مباشر في مخيم النصيرات، ونرمين نصر جيوش في نهاية الشهر الماضي بقصف منزلها في غزة، والمصور الصحفي عبد الله حماد بقصف منزله بدير البلح، وسامر خليل أبو دقة مصور قناة الجزيرة وكان مرافقا للصحفي وائل الدحدوح عندما استشهد في منتصف ديسمبر/كانون الأول المنصرم بقصف لمدرسة للإيواء في خان يونس، وقديما نذكر الكاتب الصحفي غسان كنفاني الذي اغتاله الموساد بتفجير سيارته في بيروت عام 1972.

لقد صارت شوارع غزة موطنا للدماء وآن الأوان لوقف تلك الحرب البشعة التي تدار بغير أخلاق بيد عدو مجنون يريد تحقيق أي نصر يذكر ولو بقتل الجرحى والأطفال والنساء والصحفيين في سبيل تركيع المقاومة وتحقيق نصر متوهم يقدمه لشعبه الثائر والمنتظر لحظة الحساب الثقيل.

ورغم تلك الآلام التي لا تحتمل، فهناك شعب خارج القياس، وخارج القراءة المعروفة لنا، وخارج التحليل، هؤلاء يريدون عالما غير عالمنا، هؤلاء مختلفون بكل فئاتهم، هؤلاء هم حجر أساس دولة فلسطين الحرة، والثمن مهما بلغ في حجمه على تلك المهمة قليل، سلام عليك يا فلسطين، لله درك وائل الدحدوح.

إلى جنة الخلد يا حمزة…

المصدر : الجزيرة مباشر