“الست” أم كلثوم “صوت مصر”، ماذا يعني كل هذا؟

هناك صراع محتدم في مصر الآن، مَنْ المطربة التي تمثل “صوت مصر”، “شيرين”، أم أنغام، أم أخرى ثالثة، والحقيقة لا هذه ولا تلك، فإن كان ولا بد فلا معنى لهذا الصراع، ومن مصر خرجت أم كلثوم وشادية!

لقد لقبها المصريون بأكبر لقب وأشده إكبارًا واحترامًا في اللهجة المصرية يمكن أن يطلق على سيدة، “الست”، ووحّدهم صوتها كما تفعل الشعارات الوطنية، أو كما لم تفعل، وأجمعوا على جمال صوتها كما لم يجتمعوا على فكرة أو قضية في حياتهم. إنها “الست” أو السيدة أم كلثوم، ذات الصوت المميز والفريد في عالم الغناء المصري والعربي.

مرت سنوات وعقود على وفاتها، ولم يزد الزمن صوتها إلا حلاوة وجمالًا، ولا تزال مقاطعها الغنائية الطويلة تصدح عبر موجات الإذاعة والتلفزيون، ويستمع إليها الناس ويرددونها.

في سيرة ذاتية باللغة الإنجليزية حول السيدة أم كلثوم، أرّخت الكاتبة الأمريكية فيرجينيا دانيلسون حياة أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين، في كتاب يحمل اسم “صوت مصر”.

ماذا يعني صوت مصر؟

كتبت فيرجينيا دانيلسون في الفصل الأول الذي يحمل عنوان “صوت ووجه مصر”: “كانت أم كلثوم رائدة ثقافية بالمعنى العام للكلمة، باعتبارها شخصية عامة وباعتبارها رئيسًا لنقابة المهن الموسيقية لسبعة أعوام، وعضوًا بلجان حكومية معنية بالفنون، ومبعوثًا ثقافيًا مصريًا إلى الدول العربية الأخرى، لذا عند وفاتها في عام 1975 وُصفت جنازتها بأنها أكبر من جنازة الرئيس جمال عبد الناصر، لقد كانت على مدى أعوام طوال صوت ووجه مصر، وما زالت حتى اليوم شخصية لا غنى عنها في الحياة الموسيقية العربية”.

نالت أم كلثوم خلال حياتها ألقابًا عدة، مثل: كوكب الشرق، سيدة الغناء العربي، الست، قيثارة الشرق، وصوت مصر، وهي ألقاب استحقتها جميعًا؛ فقد كانت تبرز قيمًا وطنية وثقافية وإنسانية، ولها عدد من المواقف الوطنية، منها دورها الكبير في دعم المجهود الحربي بعد نكسة 1967، إذ انخرطت في حملة تبرع لدعم المجهود الحربي، فتبرعت بمصوغاتها الذهبية، وإيرادات حفلاتها داخل مصر وخارجها، وغيرها من المواقف.

“كانت أم كلثوم بلا شك أوسع شهرة في العالم العربي في القرن العشرين، لقد ظلت تغني لما يزيد عن خمسين عامًا، من عام 1910 تقريبًا- منذ أن غنت مع والدها في الأفراح والمناسبات الخاصة بقرى ومدن شرق الدلتا المصرية- حتى مرضها في عام 1973 قبيل وفاتها.

بلغ عدد الأغنيات التي سجلتها حوالي ثلاثمائة، وعلى امتداد ما يقرب من أربعين عامًا، كانت الحفلات التي تقدمها في ليلة الخميس الأول من كل شهر تنقل في بث مباشر على موجات الإذاعة المصرية المعروفة بقوتها، ولذلك كان مستمعوها بالملايين”.

تضيف دانيلسون: “قصة أم كلثوم هي قصة مطربة ناجحة في مجتمع يتصف بطبيعته المركبة، ولذلك فهي قصة متعددة الأوجه، إنها قصة فتاة ريفية، كبرت لتصبح رمزًا ثقافيًا لأمة كاملة، وهي أيضًا قصة امرأة تؤدي العمل الذي احترفته باقتدار، امرأة اعتمد نجاحها في مجال عملها على بذل جهد مضن لشق مسار لنفسها وسط الأعراف والمؤسسات الموسيقية السائدة في القاهرة، قصتها قصة تطور مطربة قديرة، لا يزال ينظر إلى غنائها باعتباره مثالًا معاصرًا جديرًا بأن يحتذى به، ولا يزال فنها رغم تقادمه في الزمن يحظى بإكبار عميق”.

صوت آخر لمصر

ومن الفنانات اللاتي حظين باللقب ذاته “صوت مصر”، الراحلة الكبيرة شادية، صاحبة أعذب أغاني الحب والوطنية وحتى الأمومة.

قال عنها صاحب نوبل الأديب نجيب محفوظ بعد أن جسدت أربع شخصيات من رواياته بمهارة وإبداع: “إنها استطاعت أن تنقل سطوري في رواياتي إلى لحم ودم، وشكل جميل، مما جعلني أشعر أن شخوصي في الروايات تسير على الأرض”، وقالت عنها السيدة أم كلثوم التي كانت أول من شجعتها على الغناء عندما سمعتها لأول مرة “إنها من أحب الأصوات إلى قلبي”.

لقد أحب الناس صوت شادية وارتبطوا به، كما أحبوا أم كلثوم -وإن كانت الأخيرة بدرجة أعمق، وبإجماع أكبر- ليس فقط بسبب حلاوة الصوت، ولكن من أجل مواهب أخرى، فهي ذات الأداء الراقي، والمقومات الذاتية الجيدة، التي جعلت جمهورها يغالي في حبها، ويدافع عن لقبها “صوت مصر”.

حتى بعد وفاتها، ذلك اللقب الذي بات يتصارع عليه مطربات عدة في عصرنا الحالي، لكنهن لم يقنعن الجمهور الذي بقي متمسكًا بأم كلثوم وشادية، نظرًا لتلك المقومات الفنية والشخصية الطيبة، وليس فقط جمال الصوت، فالفنان الجيد هو قدوة ومثل، لا تطفو مشاكله وصراعاته الشخصية وأخطاؤه وهفواته على السطح، بل مهتم بقضايا وطنه، ويصلح لأن يكون خير سفير يمثلها.

المصدر : الجزيرة مباشر