الحرب ضد اللغة العربية وعلاقتها بأزمة الهوية التركية

منطقة الفاتح حيث العرب أكثر حضورًا فيها

 

 

تزامنًا مع ذكرى الحادي عشر من أغسطس/آب سنة 1928، الذي تم فيه تقديم أول درس لتعليم الأبجدية التركية الجديدة لنواب البرلمان، وكبار رجال الدولة التركية في قصر دولمه بهشه، بعد أن استُبدلت الأبجدية اللاتينية بالأبجدية العربية، تشهد تركيا حاليًا حملة مسعورة، وصراعًا محمومًا، وتنافسًا غير مسبوق يجري على قدم وساق بين كثير من مسؤولي البلديات في مختلف المحافظات التركية، وكأن هناك منافسة قوية في بطولة قومية، يشتعل معها حماس المتفرجين المتابعين لمجريات الأمور باستمتاع غريب، وتشفٍ لا حدود له.

المنافسة المقصودة تستهدف اللافتات واللوحات الدعائية المخطوطة بالأحرف العربية، حيث يتسابق الجميع لنزعها من فوق المحال التجارية والمكاتب الإدارية، خشية أن تقع أعين العلمانيين والقوميين الأتراك عليها، فذلك يسبب لهم على ما يبدو حالة من الهياج العصبي والألم النفسي، ويفسد عليهم حاضرهم ومستقبلهم.

نزع اللافتات العربية، وإخفاء الحرف العربي من المشهد التركي العام يأتي تماهيًا مع الحملة العنصرية التي تقودها أطراف بعينها ضد الوجود العربي في تركيا بأشكاله كافة، وما يمت له بصلة، حتى وصل الأمر إلى حد استهداف لغة القرآن الكريم وأبجديتها العربية.

فبعد أن أصبح من الصعب على هؤلاء سماع أحرفها عندما تنطق بها الألسن، ازداد الأمر صعوبة إذا ما وقعت عين أحدهم على لافته مسطورة بحروف عربية!! كراهية غير مسبوقة تدفعهم إلى محاولة طمس كل ما له علاقة باللغة العربية: الإنسان واللسان والحرف.

استهداف العربية بزعم حفاظًا على التركية

الحملة التي رفعت شعار “حفاظًا على اللغة التركية” لم تنتبه للافتات المدونة بالإنجليزية والفرنسية والكورية وحتى اليونانية، ولم يجرؤ أحد ممن يقودونها على المساس بأي لافتة كتبت بأحرف هذه اللغات، أو حتى التنويه عن وجودها، لكنهم تكالبوا جميعًا واتحدوا ضد اللافتات المدونة بالعربية.

هذا التكالب والتكاتف العنصري ضد العربية وأبجديتها المكتوبة دون غيرها من اللغات التي تحملها آلاف اللوحات الدعائية لمنافذ بيع الوجبات السريعة، ومحال عرض الماركات العالمية في المراكز التجارية والشوارع الرئيسة في المدن التركية، إنما يدل على أن هناك حالة من الرعب والهلع الشديد أصابت العلمانيين الجدد جراء عودة اللغة العربية إلى الشارع التركي، وانتشارها مجددًا بين أبنائه.

لأن هذا يعني تلقائيًا عودة الزخم الإسلامي وانتشار القيم الدينية، وهو ما يمثل من وجهة نظرهم تهديدًا مباشرًا للجهود كلها التي بُذلت لتوطين القيم الغربية، ومبادئ العلمانية التي يروّج لها العلمانيون والكماليون منذ قرن من الزمان، بدءًا من مؤسس الجمهورية التركية ورفاقه، ومن خلفهم من سياسيين ومفكرين طوال هذه العقود، الذين بذلوا كل ما في وسعهم لقطع الروابط كلها، ونسف الصلات والجسور جميعها، التي طالما ربطت بين الأتراك ودينهم الإسلامي بكل أخلاقياته ومعاملاته تحقيقًا لهذا الهدف.

محاربة الإسلام ومحو الصلات التي تربط الأتراك به

فاستهداف اللغة العربية ومحاولة التخلص منها ليس جديدًا على العلمانيين الأتراك، فمصطفى كمال أتاتورك الذي اشتهر بعدائه للإسلام وكراهيته للمسلمين والعرب على وجه الخصوص، كان أول من بذل جهدًا خارقًا في سبيل تحويل بوصلة الأتراك من الشرق إلى الغرب، مستهدفًا اللغة التي كانوا يستخدمونها آنذاك، وهي اللغة العثمانية المكتوبة بأحرف عربية، والتي كانت مزيجًا من العربية والفارسية والتركية الأناضولية.

وفي سبيل هذا أصدر القانون رقم 1353، الذي تم بموجبه التحول من اللغة العربية وحروفها إلى الأبجدية اللاتينية، وهو التحرك المعروف تاريخيًا بـ”الانقلاب اللغوي” أو “انقلاب الأحرف”، الذي بدأ العمل به فعليًا في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1928.

وتحت ادعاء أن سبب انهيار منظومة التعليم في الدولة العثمانية إنما يعود في المقام الأول إلى استخدام الأبجدية العربية، واصفًا لغة القرآن بـ”المصطنعة التعابير، الثقيلة على اللسان”، وبأنها سبب حالة التخلف والرجعية والفقر الذي يعيشه العالم الإسلامي، وأجبر أتاتورك الأتراك باختلاف أعمارهم على الانضمام لصفوف تعلم اللغة التركية التي قام باعتمادها للجمهورية الجديدة.

وتولى شخصيًا مهمة المشاركة في تعريف المواطنين على الأحرف الجديدة، وحثهم على الانخراط في فصول تعليمها، وأمر بتغيير أحرف أسماء المباني والهيئات الحكومية جميعها، والسفن التي تخضع لملكية الدولة من العربية إلى اللاتينية، وسعى لتنقية التركية من آثار العربية والفارسية تحديدًا.

لكن الأمور لم تسر كما اشتهى أتاتورك، إذ وجد أن حوالي 60% من الكلمات التركية المستخدمة هي في الأصل كلمات عربية، وبذل اللغويون الأتراك جهدًا خارقًا من أجل استبدال هذا الكم من الكلمات العربية بأخرى تركية، رضوخًا لأوامره، ورغم هذا لا تزال التركية تحوي أكثر من ستة آلاف كلمة أصلها عربية.

لم يكن هدف انقلاب الأحرف إذًا هو التخلص من حالة الجهل وإصلاح منظومة التعليم كما ادعى مؤسس الجمهورية الجديدة، لكن الهدف الحقيقي كان محو أية صلات تربط بين الأتراك والعالم الإسلامي، والحد من تأثير الدين في المجتمع، لإفساح المجال أمام منظومة القيم والأخلاقيات الغربية بتناقضاتها وانحلالها الأخلاقي كله للانتشار والتمدد داخل طبقات الأتراك وشرائحه المختلفة.

حزب الشعب الجمهوري ودوره في محاربة الإسلام واللغة العربية

ولهذا السبب تحديدًا شن حزب الشعب الجمهوري آنذاك حملة واسعة النطاق، مستهدفًا القضاء على اللغة العربية، فمنع التدريس بها، وأغلق الصحف جميعها التي كانت تصدر بالعربية، كما أمر أئمة المساجد بتتريك الآذان، وتلاوة القرآن في المناسبات الدينية والاحتفالات القومية باللغة التركية بعد أن تم ترجمته إليها، كل ذلك من أجل إجبار المواطنين على تعلم التركية بالأحرف اللاتينية، وتغيير الكثير من الكلمات والمصطلحات العربية التي تم استبدالها بكلمات من الإنجليزية والفرنسية والتركية الأناضولية.

مرحلة صعبة سادت فيها حالة من الجهل والأمية، وأغلقت العديد من الصحف أبوابها بعد أن حصدت خسائر كبيرة نتيجة استخدامها اللغة التركية التي لا يستطيع العامة قراءتها أو التحدث بها، مع تجريمه استخدام العربية كتابة ونطقًا، وفرضه عقوبات وغرامات فادحة على كل من يخالف تعليماته بعد اتهامه بمناصرة العربية.

ليفقد الأتراك هويتهم، ويتيهون بين الماضي الذي تقطعت بينهم وبينه الصلات كافة، وبين الحاضر الذي لا يجدون فيه لأنفسهم مكانًا، ليصبحوا معزولين عن العالم، يتسولون رضا أوروبا عنهم، ويتمنون اعترافها بهم، فثمانون عامًا عاشتها الأجيال المتعاقبة في هذه المتاهة، والآن يسعى ورثة أتاتورك وحاملو لواء علمانيته إلى جر الشعب التركي مجددًا للدوامة نفسها التي عانى منها أجدادهم، دون أن ينتبهوا إلى أن العالم تغير، وأن تلك العودة سيكون لها تداعيات وعواقب اقتصادية وثقافية واجتماعية لا قبل لهم بها.

يتجاهل هؤلاء وهم يسعون سعيهم هذا أن أجدادهم حينما فقدوا إسلامهم، وابتعدوا عن لغة القرآن، ومحوها من ذاكرتهم، فقدوا هويتهم وانسلخوا عن تاريخهم وحضارتهم، تلك الحضارة التي لم يكونوا بالغيها إلا بالإسلام، وعن طريق لغته العربية.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر