عاشت “ليلة النجوم” ومات فان جوخ

اليوم (29 يوليو) ذكرى وفاته

لوحة ليلة النجوم الفائزة بلقب أفضل عمل فني في العصر الحديث

“كثيرًا ما أظن أن الليل أكثر حياة وزخرًا بالألوان من النهار”، بهذه الكلمات أعلن الرسام الهولندي فنسنت فان جوخ في رسالة إلى أخيه عن إكمال عمل جديد، أصبح فيما بعد إحدى روائعه.

في قرية ريفية، صوّر فنسنت فان جوخ مشهدًا آسرًا عبر لوحة من قماش رسمها عام 1889، أطلق عليها اسم “ليلة النجوم”، رسم فيها بالألوان الزيتية سماءً ليلية مليئة بالدوامات الزرقاء، فيها هلال أصفر، ونجوم تستحيل أجرامًا سماوية مشعة، وأسفل كل هذه الرسوم توجد كنيسة صغيرة، حولها منازل ريفية بسيطة، وشجرة سرو كبيرة داكنة، تقطع المشهد يسارًا لتصل الأرض بالسماء.

توحي اللوحة بأن الرسام منجذبًا جدًّا إلى الليل، وقبل كل شيء إلى السماء المرصعة بالنجوم، التي عبّر عنها بدقة فلكية كبيرة.

ولشدة انجذاب جوخ إلى السماء وصفها في رسالة، من ضمن الرسائل العديدة التي كان يكتبها إلى أخيه ثيو، بشكل مستفيض، قائلًا: “كأن السماء تمر بألوانها الصفراء والزرقاء، وكأن شعاعًا من الأضواء يتحرك بسرعة، مما يسبب حالة من الذعر في نفوس البشر”.

من هو فنسنت فان جوخ؟

يُعرف فنسنت فان جوخ، الرسام الهولندي المصنَّف ضمن مدرسة ما بعد الانطباعية، بأنه أحد أهم الشخصيات وأكثرها تأثيرًا في تاريخ الفن الغربي. وعلى الرغم من حالة الاكتئاب والفقر التي عانى منها، فقد أبتكر حوالي 2100 عمل فني على مدى عشر سنوات، تضم مجموعته حوالي 860 لوحة زيتية، أنتج معظمها في العامين الأخيرين من حياته، إضافة إلى عدد من اللوحات والرسومات بالألوان المائية.

شملت أعمال فان جوخ المناظر الطبيعية، ولوحات الزهور مثل لوحات دوّار الشمس والصور الشخصية، التي تتميز بالألوان النابضة بالحياة، وضربات الفرشاة الجريئة، والتقنيات التعبيرية التي لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل الفن الحديث.

ولد فان جوخ في 30 مارس/ آذار عام 1835 في بلدة جروت زندرت بهولندا، لعائلة متوسطة الحال، وأظهر موهبة فنية منذ سنّ مبكرة، وعمل تاجرًا فنيًّا بضع سنوات في بداية سنّ الرشد.

وقد أمضى الكثير من حياته في مهن مختلفة قبل أن يبدأ مسيرته الفنية عام 1880.

أشهر حادثة في تاريخ الفن

عندما بلغ فان جوخ من العمر 35 عامًا، قام بقطع النصف السفلي من أذنه اليسرى بشفرة حلاقة، وبعد تضميد جرحه النازف، لف أذنه المقطوعة بالورق، وأخذها إلى بيت للبغاء في مدينة آرل الفرنسية، وقدمها لامرأة، قائلاً لها: “احتفظي بها بعناية”.

في وقت لاحق من ذلك المساء، تم العثور عليه فاقدًا للوعي، ونُقل إلى مستشفى قريب.

خلد الرسام مظهره المشوّه في لوحتين: واضعًا الضمادة على أذنه.

ساهم قطع فان جوخ للنصف السفلي من أذنه في شهرته أكثر مما اشتهر به فنه في تلك الفترة.

كان فان جوخ يعاني من اضطرابات نفسية، ووحدة وقلق واكتئاب عميق وشعور بأن حياته كانت فاشله، لازمه هذا الشعور طوال حياته، وبعد فترة وجيزة من خروجه من المستشفى، ذهب بإرادته إلى مصحة نفسية لتلقي العلاج.

ومن المفارقات، أن هذه العزلة حفزته لإنتاج بعض أشهر أعماله، ومنها لوحة “ليلة النجوم”، التي رسمها من نافذة غرفة المصحة، التي كان يقيم فيها ليلًا، ولأنه لم يكن مسموحًا له بالرسم في غرفة نومه، رسم المشهد من الذاكرة في الصباح.

نهاية مأساوية.. وفن لم يمت

عندما كان جوخ يمشي في حقول القمح للحصول على الإلهام لرسم لوحة جديدة، أطلق الفنان النار على نفسه محدِثًا إصابات في جسده، تمكن بعدها من السير بمفرده إلى الفندق الذي كان يقيم فيه، وعندما سألوه عما فعله، أجاب: “حاولت أن أقتل نفسي”.

قام الناس بإخطار أخيه ثيو في صباح اليوم التالي، وعندما حضر كان جوخ واعيًا، وظل الأخوان يتحدثان معًا، حتى فارق جوخ الحياة بين ذراعي أخيه يوم 29 يوليو 1890 لتنهي حالة الاكتئاب المستمرة في حياة الفنان.

ليلة مرصعة بالنجوم: الحلم والواقع

في العامين الأخيرين من حياته، اكتسب فان جوخ شهرة بين رواد الأعمال، وبعد وفاته عمل أخوه ثيو على تقديم أعماله، لكنه توفي بعد ستة أشهر فقط من وفاة جوخ.

كان على أرملة أخيه جوانا التي ورثت أعمال فان جوخ الفنية إكمال مهمة الترويج لهذه الأعمال لكي تعيل نفسها وابنها، الذي كان لا يزال رضيعًا، وإلا ماذا كانت ستفعل بمئات اللوحات التي تركها لها ثيو؟

كانت جوانا ذكية فاستطاعت أن تبيع بعض أعمال جوخ، وأعارت بعضا آخر للمعارض الفنية، في غضون ذلك بدأت جوانا مشروعًا كبيرًا آخر وهو نشر رسائل فان جوخ إلى أخيه ثيو، حيث كان الأخوان متقاربين، وتبادلا الرسائل بشكل متكرر.

وبفضل هذه المرأة أصبحت أعمال فان جوخ مشهورة عالميًّا؛ لتعيد للفنان المكانة التي يستحقها.

أفضل عمل فني في العصر الحديث

لا يزال القدر يكافئ الفنان العظيم، حيث حصلت لوحته الشهيرة “ليلة النجوم” المعروضة في متحف الفن الحديث في نيويورك على لقب أفضل عمل فني في العصر الحديث بنسبة تصويت بلغت 44% من أصوات الحملة التي نظمتها جمعية Jacksons of Yorkshire البريطانية بالتعاون مع مؤسسة Create.

حالة فان جوخ تثير الكثير من الحزن، فلقد عاش جائعًا ومكتئبًا، ولم ير كل هذا النجاح!

وبالطبع ليس فان جوخ وحده بل هناك العديد من الفنانين الذين لم يحظوا بالتقدير الكافي أثناء حياتهم، ولكن بعد وفاتهم تم التعرف على قيمة أعمالهم وأثرها في الفن.

ويعلمنا فان جوخ أن وفاة الفنان ليست دائمًا نهاية الإبداع، بل قد تكون بداية لتعريف العالم بمواهبه وتقديرها، وعلى الرغم من كل شيء تبقى لوحة “ليلة النجوم” لتحكي الكثير من الفن والحب والإبداع والشقاء.

امرأة تلتقط صورة للوحة في معرض جوخ الذي أقيم في مايو الماضي بإيطاليا
المصدر : الجزيرة مباشر