هل تكون أثينا كبش فداء لتقارب القاهرة وأنقرة؟!

العلمان المصري والتركي

عودة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وأنقرة، وتبادل السفراء، والإعلان عن احتمال قيام الرئيسين المصري والتركي بزيارات متبادلة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فجّر أزمة لا تزال صامتة ولم تخرج بعد إلى العلن بين القاهرة وأثينا.

فأثينا القلقة من التطورات المتلاحقة في ملف العلاقات التركية المصرية، تراقب عن كثب الخطوات والتفاهمات التي توصل إليها دبلوماسيو البلدين في العديد من الملفات الخلافية، التي سبق أن عمقت الأزمة بينهما على مدى السنوات العشر الماضية، ومدى تأثير هذه التحركات على علاقاتها مع القاهرة، خاصة أن البلدين عقدا خلال نفس الفترة الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات الأمنية، والعسكرية، والاقتصادية، التي رفعت من حجم تعاونهما إلى مستويات غير مسبوقة، ويأتي في مقدمة هذه المعاهدات اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، التي حددت حدود كل منهما البحرية، وحصتها في ثروات منطقة شرق المتوسط الغنية بالغاز الطبيعي.

وهي الاتفاقية التي لا تعترف بها أنقرة، وتعتبرها كأن لم تكن، مرتكزة في رفضها هذا على وجهة نظر لديها، ترى أنه فعليا لا توجد حدود بحرية تذكر بين القاهرة وأثينا تستوجب تحديدها باتفاقية، وهي وجهة النظر التي اعتمدت عليها أنقرة في تعاملاتها وتحركاتها اللاحقة الخاصة بالتنقيب عن الغاز بمنطقة شرق المتوسط.

طمأنات مصرية وشكوك يونانية

القاهرة من جانبها؛ وفي مراحل متقدمة من محاولات التوصل إلى تفاهمات بشأن حل مشكلاتها مع أنقرة سعت إلى طمأنة أثينا، وأبلغت المسؤولين اليونانيين صراحة أن أي تطورات قد تشهدها العلاقات المصرية التركية، لن يكون لها تأثير يذكر على علاقات القاهرة مع أثينا، وأن قضايا مصر الخلافية مع تركيا لن يكون من السهل حلها في فترة قصيرة، الأمر الذي يعني أن مسار عودة العلاقات بينهما إلى طبيعتها سيستغرق الكثير من الوقت، مشددة على عدم وجود نية لديها للتراجع عن أي اتفاقيات تم توقيعها بين البلدين خلال فترة القطيعة في علاقاتها مع أنقرة، في إشارة واضحة إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي تم توقيعها بين البلدين عام 2020، إلى جانب اتفاقية التعاون في مجالات الطاقة بشرق المتوسط.

 

أثينا وتوظيف الخلاف بين القاهرة وأنقرة لتحقيق أهدافها

ورغم هذه الطمأنات الواضحة، فإن أثينا لا تشعر بارتياح لهذه التطورات المتلاحقة في ملف العلاقات المصرية التركية، وتدرك تمام الإدراك أن تلاشي الأسباب الحقيقية التي دفعت القاهرة إلى إبرام اتفاقية ترسيم حدودها البحرية معها قد يؤدي إلى تغيير موقفها، ومراجعة الأمر برمته، والتراجع ولو جزئيا عن بعض البنود التي تحويها الاتفاقية، والمطالبة بتعديلها، خاصة مع ما يمكن أن تحصده من مكاسب أمنية وجغرافية واقتصادية هي في أمس الحاجة إليها.

يعلم القاصي والداني أن إقدام مصر على خطوة ترسيم حدودها البحرية مع اليونان جاء نكاية في تركيا، انتقاما منها على موقفها الرافض للأحداث السياسية التي شهدتها مصر سنة 2013 وما تلاها من تطورات، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وبدء مرحلة من الخلافات طالت الكثير من الملفات والقضايا، واتسعت رقعتها سياسيا وجغرافيا.

وهي الظروف التي أحسنت اليونان توظيفها في الكيد لتركيا من خلال تحقيق رغبة قديمة لديها لترسيم حدودها البحرية مع القاهرة، وهو المطلب الذي طالما ألحت على مصر به مرارا وتكرارا في فترة حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك، الذي رفض تماما الإقدام على هذه الخطوة.

مصر وأسباب رفض مطلب ترسيم الحدود مع اليونان سابقا

رفض القاهرة للمطلب اليوناني حينها جاء لسببين:
أولهما أن أثينا رغبت في ترسيم حدودها مع القاهرة وفق رؤيتها الخاصة، وليس وفق ما ينص عليه القانون الدولي، مما يعني في حالة الموافقة على طلب اليونان خسارة مصر لجزء لا يستهان به من المناطق الاقتصادية الخاصة بها، وبالتالي خسارتها لأي احتياطات من الغاز يمكن الكشف عنها لاحقا، في ظل وجود أبحاث موثقة كانت تشير آنذاك إلى هذا الأمر وتؤكده، وهو ما يحقق لها مكاسب اقتصادية ضخمة، إلى جانب زيادة حجم الأهمية الجيوسياسية لمنطقة شرق المتوسط، الأمر الذي سينعكس على وضعها سياسيا، نتيجة موقعها الجغرافي.

وثانيهما إدراك الدبلوماسية المصرية لطبيعة الأزمة القائمة بين أنقرة وأثينا، وأن وراء الرغبة اليونانية المشار إليها السعي لإقصاء تركيا عن الوجود ضمن دول منطقة شرق المتوسط مع تزايد احتمالات اكتشاف الغاز بها، ومنعها من الاستفادة اقتصاديا من هذه الثروات، بل والتضييق عليها وحصرها في منطقة بحرية ضيقة.

من هنا كان موقف القاهرة خلال هذه الفترة واضحا، حيث تم رفع شعار “لا ترسيم حدود بحرية مع أي طرف إلا بعد التوصل إلى تفاهمات تركية يونانية بشأن حدود كل منهما البحرية”.

القاهرة وإمكانية المطالبة بتعديل الاتفاق مع أثينا

ومع عودة العلاقات إلى طبيعتها بين مصر وتركيا، والإعلان عن توافق الرؤى بينهما في الكثير من الملفات، أصبح من المرجح قيام القاهرة بمراجعة اتفاقية ترسيم الحدود الموقعة بينها وبين اليونان، والقيام بتوقيع معاهدة لترسيم حدودها البحرية مع تركيا، خصوصا أن هذا الأمر يصب مباشرة في صالحها، ويحقق لها الكثير من المكاسب بصورة أكبر من تلك التي يمكن أن تحصل عليها أنقرة نتيجة لهذا.

فمصر بسبب هذه الاتفاقية فقدت نحو 11500 كيلومتر مربع من أراضيها، إلى جانب مليارات الدولارات بعد أن تخلت عن حقها في ثروات هذه المساحة الجغرافية الضخمة، فإذا كانت اتفاقية ترسيم الحدود التركية الليبية قد أعادت إلى مصر 7000 كيلومتر مربع من الأراضي التي فقدتها نتيجة اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع اليونان، فإن اتفاقية لترسيم الحدود بينها وبين تركيا من شأنها أن تعيد إليها أجزاء أخرى من الأراضي التي فقدتها، وتضمن لها حصة أكبر من ثروات المنطقة.

الدبلوماسية المصرية والدعوة إلى منظومة إقليمية جديدة

وربما لهذا السبب بدأ دبلوماسيون مصريون يتحدثون عن ضرورة توظيف التعاون بين جميع دول المنطقة، وبخاصة تركيا، ومصر، وإيران، والهند، للعمل على إيجاد آلية يمكن من خلالها نبذ الخلافات، وتوجيه الطاقات لوضع خطط عملية لدفع التنمية، ودعم الاستقرار في المنطقة كلها، الأمر الذي يمكن البناء عليه من أجل إنشاء منظومة إقليمية ترسخ مفهوم الأمن والتنمية، تتحمل فيها كل دولة مسؤولياتها، لإعادة المنطقة إلى مكانتها اللائقة على خريطة العالم.

وقد دعوا إلى التفكير بجدية في عقد مؤتمر إقليمي يضم الدول الأربع، تكون مهمته إصدار إعلان مبادئ لاحترام متبادل بين الدول الفاعلة في المنطقة، والتعهد بحماية مصالح أطرافها، وتبني آلية تشاور سياسي دائم، وتشكيل لجان أمنية، وعسكرية، واقتصادية تكون مهمتها وضع محددات مستقبلية لكل ملف من هذه الملفات، بما يكفل التعاون التام بين هذه الدول، ويحقق مصالحها، في إطار رؤية إقليمية موحدة على شاكلة تجمع بريكس، الذي يمكن التشاور معه، والانضمام إليه لاحقًا إذا ما تطورت الأمور صوب هذا الاتجاه.

أفول مرحلة تحالف القاهرة مع القوى الغربية ضد تركيا

تحديد المصريين للدول التي ستتوجه إليها مسارات السياسة المصرية خلال الفترة المقبلة، وحصرها في تركيا وإيران والهند، والتلويح بإمكانية الانخراط في تجمع بريكس، اعتبرته اليونان تراجعا في مواقف القاهرة، ومؤشرا سلبيا على نياتها اتجاه علاقاتهما، لكون هذا التوجه يشير بقوة إلى أن مرحلة انخراط القاهرة في التحالف الأمريكي الأوربي الإسرائيلي ضد تركيا ومصالحها قد بدأت الأفول.

كما يشير إلى أن هناك تحالفات جديدة من المنتظر تبلورها خلال الفترة المقبلة، وهو ما سيكون له انعكاسات سلبية على اليونان تحديدا، التي من المنتظر أن تخسر الحميمية التي ميزت علاقاتها مع مصر في السنوات الماضية، بعد عودة علاقاتها مع تركيا التي هي أقرب إليها تاريخيا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا، وهو ما يؤهلهما لأداء دور أكثر تأثيرا في قضايا المنطقة، ويحقق لهما مصالحهما التي تتعارض في غالبيتها مع مصالح اليونان.

المصدر : الجزيرة مباشر