متى يعود السودانيون إلى ديارهم؟

 

آخر مرة رأيت فيها شارع النيل بالخرطوم، كان ذلك قبل بداية الحرب، تحديدًا في 15 إبريل/نيسان 2023، وهو تاريخ سيفرض نفسه بقوة لدى السودانيين للفصل بين حقبتين، قبل الحرب وبعدها، يوم أدرك الناس أنهم أصبحوا عرضة للموت، فهجروا بيوتهم مُكرهين، على أمل العودة، دون أن يعرفوا أقريب ما يوعدون أم يجعل لهم ربي أمدًا.

بين خيارات الموت أو الوقوع في الأسر ومصائر أخرى غامضة، أصبحت الخطة التي يعمل عليها معظم سكان الخرطوم والمدن الأخرى التي اندلع فيها القتال، هي الحفاظ على حياتهم، حالهم أشبه بحال عبد الرحمن الداخل “صقر قريش” عندما كان مطاردًا من العباسيين، وقد ضيقوا عليه الخناق لقتله، فقال له خادمه بدر: ما هي الخطة يا مولاي؟ فردَّ عليه صقر قريش “الخطة أن نبقى أحياءً”.

ما بين لاجئ ونازح

خلال الأيام الأولى للحرب، غادر العاصمة الخرطوم نحو مليوني شخص، ما بين لاجئ ونازح، ثم ارتفع العدد بعد ذلك إلى 4 ملايين، بعضهم ذهب إلى مصر، والبعض الآخر إلى إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان، وكثير منهم بعُدت عليهم الشُّقّة، ومنهم أيضًا من أجْلتهم السفارات الغربية، وهنالك من انتقل بأسرته إلى مكان آمن داخل الأراضي السودانية، بشكل تسبب في ارتفاع الإيجارات بصورة غير مسبوقة.

وقد وصل سعر الشقق في مدينة ود مدني جنوب الخرطوم وبورتسودان على ساحل البحر الأحمر، وكذلك عطبرة ودنقلا في شمالي السودان، إلى أرقام مهولة، أي ما لا يقل عن 2000 دولار للشقة في الشهر، بينما تحولت المدارس والجامعات والمساجد والمقار الحكومية في الأقاليم إلى مراكز إيواء، للأسر التي لا تتوفر لديها أموال كافية، ويعيشون أوضاعًا بالغة التعقيد، معاناة في الحصول على الطعام والدواء، ولسان حالهم يلهج بالحسرة على بيوتهم، وقد أُجبروا على تركها تحت تهديد سلاح مليشيا الدعم السريع، التي أخلت أحياءً كاملة لتجعلها ثُكنات عسكرية، ونشرت قناصتها فوق أسطح المنازل، مثل ضاحية بري والعمارات والمنشية، بالقرب من مقر قيادة الجيش، وكذلك أحياء في أم درمان بجوار سلاح المهندسين، وأخيرًا الأحياء المتاخمة لسلاح المُدرعات جنوبي الخرطوم.

طريق العودة

رغم اختلاف سحنات وقبائل سكان الخرطوم، فإن الناس كانوا يعيشون في طمأنينة، دون أن يتخيلوا في أسوأ كوابيسهم أن حربًا قادمة ستخرجهم من ديارهم، وأنهم سيهيمون على وجوهم بلا زاد ولا مأوى، ليدركوا اليوم بعد تجربة مريرة قيمة الوطن “من ترك داره قلَّ مقداره”، فبعد أن كان السودان يحتضن نحو 10 ملايين لاجئ، أصبح شعبه اليوم يبحث عن حضن، يقف بالصفوف عند أبواب السفارات هربًا من جحيم الحرب، وثمّة من تضج بهم أنفاق وحدائق الديسابورا في العالم الغربي البعيد، كما أن طريق العودة لم يعد آمنًا.

لم يعد للبيت أثر، ولا وجود للعائلة التي كانت تجتمع على مائدة الطعام السوداني في حميمية. البيت احتلته قوات الجنجويد، واتخذته سكنًا لأفرادها، يلتقطون الصور بالبنادق والأزياء العسكرية من داخل غرف النوم والجلوس، بصورة استفزازية، يعبثون بأشياء أصحاب المنزل وذكرياتهم، وتثير تلك الصور مزيجًا من الحزن والسخط لدى الأبناء في الغربة، وهم يرددون في أسى مرير: أليس هذا بيتنا يا أمي، وتلك الحديقة وأقفاص الطيور تخصنا؟ كيف تحولت السيارات التي لا يملكون غيرها إلى مركبات عسكرية؟ في وقت تم نهب وتهريب ما لا يقل عن 10 آلاف سيارة، كثير منها تم استخدامها في القتال، والمنزل نفسه عرضة لاستهداف الطيران الحربي، فيا لها من خسارة!

كل الأبواب مُغلقة

نحن الآن تقريبًا في المحطة ذاتها التي مرَّ بها أهالي فلسطين وسوريا واليمن والعراق من قبل، حين ابتلعتهم المنافي، وفقدوا بيوتهم، لكن أوضاع السودانيين بالمقارنة ربما هي الأسوأ، من حيث ضراوة القتال وهشاشة الأوضاع الأمنية، وشراهة المطامع الخارجية، والقابلية لانفجارات جديدة.

وقد كشفت هذه المحنة عن ضعف الدولة وهوان مؤسساتها، آلاف الأجانب من دول الجوار كانوا يعيشون بيننا، يقاسموننا اللحم والحليب والخبز القليل، وقد احتضن السودان ملايين اللاجئين من دول الجوار لعقود طالت، ومع ذلك عندما وجد أهل السودان اليوم أنفسهم بحاجة إلى ملاذ آمن، أغلقت دول الجوار ودول أخرى صديقة أبوابها في وجوههم، ونظرت اليهم نظرة ازدراء، بينما أجبرت إثيوبيا السودانيين على الدفع بالدولار مقابل الإقامة، وحتى جنوب السودان قرر إغلاق حدوده، كما لو أنه لا أحد يطيق السودانيين هذه الأيام، العرب والأفارقة سواء كلهم تنكروا لنا!

متى تنتهي الحرب؟

نظرة خاطفة داخل الموانئ والمعابر السودانية ستكتشف حجم معاناة السودانيين، ورغبتهم في مغادرة بلادهم، كما لو أن هذه الحرب لن تتوقف، أو بالأحرى لا يعرفون متى تتوقف، وليس ثمّة من هو حريص على إيقافها، وربما لم تبدأ بعد، فلا توجد حرب قد توقفت في أشهر قليلة وخلفها كل هذا العتاد العسكري، والأجندة الخارجية المتقاطعة، فضلًا عن أن الجيش السوداني لم يتعود على حرب المدن، لا سيما في مناطق مأهولة بالسكان والمرافق الحيوية، ولذلك يتحرك ببطء، ويتعرض لضربات مؤلمة أحيانًا، ما يعني خوض معركة طويلة الأجل، وكل جولات التفاوض حتى الآن بلا جدوى، لأن الوساطات التي طُرحت كلها ضعيفة وتفتقر إلى الحياد، أما القتال الذي دخل شهره الرابع فلم يسفر بعدُ عن سيناريو نهاية الحرب، أو هزيمة قوات الدعم السريع المتمردة، لأن هزيمة الجيش تعني بداية مرحلة جديدة مُبهمة ومُخيفة، وتجعل من العودة إلى الديار حلمًا بعيد المنال.

المصدر : الجزيرة مباشر