حنين البسطاء إلى مصايف “الزمن الجميل”

لقد أتى الصيف يا صديقي.. هيا لنتخلص من همومنا ونلقيها في الماء.

جملة عتيقة مكتوبة في مجلة ابتعتها ذات يوم من سور الأزبكية، جملة اختزلت معاني كثيرة حول ما يدفع الناس إلى الذهاب إلى المصيف.

استعدت ذكرى تلك الكلمة، وأنا أتصفح منصات التواصل الاجتماعي، لتعيد على عيني وأذني تلك المواقف السمجة الأكليشيهية حول سياحة البسطاء في مصر، أزياءهم، أغانيهم، تفاعلاتهم، أنشطتهم.

آه فليكن الله في عونك يا فقير هذا الزمان، حتى وأنت تسبح في البحر تزداد همومك همًّا فوق همّ.

ملك المصايف

على الرغم من ضغوط، وأعباء الحياة الاقتصادية، وغلاء الأسعار المستفحش، فإن المصريين يلتمسون دائمًا في الصيف ملاذًا لقضاء يوم واحد على الأقل في مدينة ساحلية، من دون التفكير في تلك الأعباء.

وتتمثل هذه الطبقة الاجتماعية عادة في الذين يسافرون في رحلات جماعية بالباص أو الميكروباص، إذ يحملون معهم الطعام والشراب والتسالي وكل ما يلزم لقضاء هذا اليوم.

وبمجرد وصولهم إلى وجهتهم، يختارون الشاطئ، ويدفعون رسوم الدخول، ويقومون باستئجار شمسية وطاولة وكراسيّ، وهناك من يبسط الملاءة على المساحات الفارغة بين الطاولات، ثم يشرعون في وضع أمتعتهم وارتداء ملابس البحر والانطلاق.

وتقتصر وجهة الطبقات البسيطة في مصر والمحدودو الدخل على ثلاثة مصايف، كانت في الماضي أو “الزمن الجميل” قبلة للمشاهير والأثرياء، وأصبحت مصنفة بأنها مصايف شعبية، بما تتضمن كلمة شعبية من عنصرية تقلل من قدرها، وهي: “رأس البر” في مدينة دمياط، مركز صناعة الأثاث في مصر، وتضم آلاف الورش والمصانع التي تنتج جميع أنواع الأثاث.

وقد أطلق عليها اسم “رأس البر” لأنها المدينة المصرية الوحيدة التي تطل على ساحل البحر المتوسط، وتشكل لسانًا داخل الماء، وكانت تسمى قديمًا “جيزة دمياط”؛ أي “ناحية دمياط”. ويذكر أن المقريزي عندما زارها أطلق عليها “مرج البحر” بسبب موقعها المتميز، حيث يلتقي نهر النيل العذب مع البحر الأبيض المتوسط المالح، ولذلك يوجد بها العديد من الشواطئ التي تنفرد بإطلالة ساحرة على النيل والبحر.

وكانت مدينة رأس البر في الماضي أشهر المصايف في مصر، ولطالما احتضنت الفرق المسرحية وحفلات نجوم الفن والغناء، وشهدت تصوير عدد من أفلام السينما، منها فيلم “إجازة صيف” الذي أنتج عام 1966 من بطولة فريد شوقي، وزكي رستم، ونيللي، ونجوى فؤاد، وحسن يوسف.

وقد كتب عنها عالم الأحياء الدقيقة الألماني “روبرت كوخ”، الذي انتدبته مصر عام 1883 عندما انتشر وباء الكوليرا: “مصيف رأس البر قد يصبح يومًا ملك المصايف، وأشهرها، إذ يمتاز بموقعه المتميز، وهوائه النقي الجاف وشواطئه الذهبية، وبعده عن الضوضاء، وهو أقل رطوبة من جو الشواطئ المصرية الأخرى، وتكثر في هوائه كمية اليود”.

وتتميز رأس البر أيضًا بعدد من المزارات، مثل منطقة اللسان، وهي ممشى يقصده الناس للنزهات المسائية، ومنطقة الجربي، وهي منطقة تنتشر بها المقاهي والنوادي، وتعود تسميتها إلى الشيخ الصوفي الجربي، والفنار الذي يرصد السفن ليلًا، وملاهي رأس البر.

لا تقتصر الرحلات إلى رأس البر على رحلات اليوم الواحد فقط، فهناك فنادق وعشش للإيجار، والعشة هي الاسم المتعارف عليه للمنازل في رأس البر، بسبب الأكواخ البدائية المبنية من الخوص، التي كانت أماكن الإقامة في الماضي.

وعلى الرغم من تحويل تلك الأكواخ أو العشش إلى مبان إسمنتية وفلل فإن الأهالي ما زالوا يطلقون عليها العشش، وأصبح ذلك هو الاسم المتعارف عليه للمنازل في رأس البر.

وفى نهاية الرحلة يحرص الزوار على شراء المشبك، الحلوى الدمياطية الذائعة الصيت، التي تتميز بمذاقها اللذيذ.

ومصايف “شعبية” أخرى

وهناك مصايف أخرى، منها مصيف “جمصة” الذي يقع في محافظة الدقهلية، ويطل على البحر الأبيض المتوسط.

وأهم ما يميزه هو انخفاض نسبة الرطوبة فيه، وارتفاع نسبة اليود؛ مما جعله مكانًا مناسبًا للاستجمام.

يضم مصيف جمصة عددًا من المزارات، مثل شارع الكورنيش، والسيرك القومي، وحديقة أم كلثوم والأندلس، والأسواق التجارية، وقد اعتبر أيضا أحد المصايف الراقية، التي كانت تقصدها الطبقات الثرية قبل أن تتحول إلى مصيف “شعبي”.

أما “بلطيم”، المصيف الذي يقع في محافظة كفر الشيخ، فيضم عددًا من الشواطئ الممتدة على مسافة 11 كيلومترا مثل شاطئ النرجس، وهو الأشهر من حيث الخدمات، والأمل، والفيروز.

وتشتهر محافظة كفر الشيخ كذلك بعدد من المزارات الهامة، مثل مدينة بوتو، المعروفة حاليًّا بـ“تل الفراعين”، وقد كانت مدينة ذات أهمية تاريخية لأنها أقدم عواصم الدلتا في مصر القديمة، وآثار فوه الإسلامية التي تضم حوالي 365 مسجدًا ومناطق أثرية، ومتحف كفر الشيخ، وفنار البرلس.

وتمتاز معظم تلك المصايف “الشعبية” بالحضور الطاغي للباعة الجائلين، الذين يبيعون أشياء عدة مثل العوامات، والفريسكا، والملابس وغيرها.

تحضرني الكثير من الذكريات في تلك المصايف، وأرى أن معظم المصريين من البسطاء الذين يصيفون في تلك المصايف “الشعبية” قد يسطرون ذكريات غالية في وعيهم الفردي والجماعي، كأسر ومراهقين، وأزواج وعشاق، ربما تكون أكثر زخمًا، وأشد عمقًا، من النخبة القليلة التي لا تمثل ربع الشعب المصري، والتي أرادت أو أريد لها أن تعزل رفاهيتها عن البقية “الشعبية” بكلمات أجنبية، وسهرات وأنشطة هي في أخف الأوصاف تقليد ثقافي لمجتمعات أخرى، تغيب عنهم روحها وسياقها.

ولكن، بالتأكيد، نحن المصريين جميعًا يوحدنا الحنين، الحنين إلى “زمن جميل” كانت فيه المصايف “الشعبية” تلك وجهات النخبة والمشاهير والسياح.

المصدر : الجزيرة مباشر