رحلة في دروب سوق واقف

أحد دروب سوق واقف

لا أحب كرحالة اكتشاف المدن بالطرق التقليدية، ولا تستهويني تلك البرامج المعلبة التي تنظمها شركات السياحة والتي قد تناسب أي سائح تقليدي، يميل أكثر إلى ذلك الترفيه، المنسوخ، وهو على استعداد تام لاستقبال ما يملى عليه فقط.

لم تكن تلك هي بغيتي من البداية، فلقد شعرت بأنني سأكون سعيدة إذا ما انغمست في التجربة وتذوقتها إلى آخر قطرة، سنوات وأنا أضع حقيبتي فوق ظهري، أجوب البلاد والصحاري عبر طرق غير تقليدية، أتذوق الطعام الشعبي، وأركب الحافلات المحلية، أرتدي الأزياء الوطنية، وأعيش مثل أهالي البلدة أعبر الفيافي والقفار لأغمر نفسي في شلالات الغابات المطيرة في آسيا وأتذوق خبز الصحراء من البدو وساكني الصحاري، أشرب الحليب الطازج من أيدي المزارعين في ألبانيا، أسير في الأحراش والغابات.

الحدث الكروي الضخم

أعلم أن رحلتي إلى قطر هذه المرة مختلفة تماما عما سبقها من رحلات، بعد التحدي الذي واجه قطر في تنظيم ذلك الحدث الكروي الضخم. ما حدث في قطر كان رائعا بكل المقاييس، لن ينسى أحد من مشجعي كرة القدم في العالم ذلك الوقع الساحر، يوم أن دبت أقدام أساطين اللعبة مثل كريستيانو رونالدو وميسي أرض الملاعب القطرية، أصوات الجماهير في المدرجات، صيحات الجمهور هنا وهناك، وفرحة الجماهير في سوق واقف، وجولة المشجعين في أرجاء البلاد، تلك النظرة التي تغيرت عن الثقافة العربية، وأصبح يسودها الكثير من الود والتقدير، فالعرب ليسوا مجرد راكبي جمال كما كانوا يظنون!! لقد تغيرت تلك النظرة السلبية الآن تماما.

وكان من حظي الطيب زيارة قطر هذه الأيام، في فترة ليست ببعيدة عن نهاية كأس العالم، وأرى أن الدولة قد جعلت من الحدث الكبير، دفعة جديدة حضارية تضاف إلى ما سبق، حيث اهتمت الدولة بتمديد الرعاية والدعم للزائرين.

بعد النجاح الكبير الذي حققته قطر باستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 قامت وزارة الداخلية القطرية بمد صلاحية بطاقة “هيا” لدخول البلاد لكل من المشجعين والمنظمين حتى 24 يناير 2024، ليس هذا فقط بل أضافت صلاحيات جديدة لحاملي بطاقة هيا وهي إتاحة دعوة ثلاثة أشخاص من عائلاتهم أو أصدقائهم لزيارة البلد بدخول متعدد، من دون دفع أي رسوم للتسجيل بشرط الالتزام بمتطلبات محددة، وهي حجز فندق، وتذكرة عودة مؤكدة، وتأمين صحي يغطي فترة إقامتهم في قطر.

لم أستطتع أن أفوت هذه الفرصة وخصوصًا عندما جاءتني دعوة من صديقة من حاملي بطاقة هيا، وفي الحقيقة كانت الخدمة سريعة للغاية فقد تم قبول طلبي في أقل من 24 ساعة عبر رسالة وصلت إليّ على البريد الإلكتروني بها تهنئة بإتمام الموافقة على طلبي زيارة قطر، وفي اليوم التالي كنت على متن الطائرة المتجهة إلى قطر.

البداية مرحبة ومنظمة

تلك كانت الإجراءات الأسهل من خلال رحلاتي الكثيرة والممتدة، فدخول قطر سهل ومريح للغاية، فلا يوجد موظفو جوازات لمراجعة أوراقك وتضييع كثير من الوقت في أسئلة لا داعي لها.

وذلك لأن مطار قطر يقدم خدمة البوابة الإلكترونية للدخول والخروج، وكل ما عليك هو عمل مسحة لجواز السفر بنفسك ثم الوقوف أمام الكاميرا لالتقاط صورة لك، وستفتح البوابة أتوماتيكيًّا بعد إتمام الإجراءات وتنطلق في مغامرتك. وأول شيء جال بخاطري هو زيارة سوق واقف، ذلك الاسم الأشهر في فعاليات كأس العالم، فما الذي جعل هذا السوق مركزًا للمشجعين من جميع أنحاء العالم، ومعقلا لكل مشجع يبحث عن السعادة والبهجة؟ بالتأكيد هناك سرّ ما.

سوق واقف التراثي

يعتبر سوق واقف بالدوحة أشهر الوجهات السياحية والتراثية التي يمكنك من خلالها الاستمتاع بالأجواء الأصيلة وهو أحد أهم الأماكن التي ينبغي زيارتها. إنه سوق عربي نموذجي، تباع فيه التوابل والهدايا التذكارية والملابس التقليدية والمجوهرات، من بين أشياء أخرى كثيرة مثل الطيور، والأعمال الفنية المصنوعة محليًّا، وتجربة بعض الأطعمة المحلية اللذيذة، وبينما أتجول في أزقة السوق لفتت نظري لافتة على واجهة مبنى مكتوب عليها “مجلس الدامة”.

أخذني الفضول للدخول والتعرف على هذا المكان، إنه مجلس حقًّا، يجتمع فيه عدد من المواطنين والسياح لممارسة لعبة تراثية تشبه لعبة الشطرنج موضوعة على طاولات، كان هناك رجل يرتدي الزي القطري التقليدي المكون من الثوب الأبيض والعقال، يشرح لأحد السائحين باللغة الإنجليزية هذه اللعبة قائلًا “إنها لعبة مكونة من 64 مربعا، يحصل كل لاعب على 16 خشبة، تكون عادة من لونين هما الأصفر والأسود، والهدف هو كيفية اختراق المناطق المفتوحة وكيف نحصل على أكبر عدد ممكن من الخشب، وأضاف أنها لعبة تعلم الذكاء والتركيز ووضع الاستراتيجيات، وأشار إلى أن كلمة دامة تعني في اللغة الإسبانية “المرأة الجميلة”.

قاطعت حديثه متسائلة عن أصل اللعبة، فقال -بعد أن عرفني بنفسه، بأن اسمه خالد البدري، وأنه متطوع لمساعدة الجمهور الأجنبي على التعرف على هذه اللعبة التي تعد من التراث القديم- “هذه اللعبة كان يمارسها الأجداد والآباء منذ القدم، وهناك خلاف حول أصلها لكن أغلب الأقوال تُنسب اللعبة إلى قدماء المصريين”، وأشار للوحة معلقة على الحائط لبعض المصريين القدماء وهم يلعبون الدامة.

كتارا.. مركز الثقافة والفنون

بعد إتمام زيارتي لسوق واقف اتجهت إلى قرية كتارا الثقافية وهي مركز هام للثقافة والفنون في الدوحة، وقبلة للعائلات والأصدقاء لقضاء بعض الوقت، حيث يوجد الكثير مما يستحسن الزوار رؤيته في كتارا كالمدرج الروماني المستوحى من المسرح اليوناني الكلاسيكي مع العمارة الإسلامية، وجامع كتارا الذي صممته المصمة التركية الشهيرة زينب فاضل أوغلو، وتتميز عمارة جامع كتارا بوجهته التي تحتوي على فسيفساء فيروزية، والمسجد الذهبي المستوحى من الطراز العثماني، وحدائق تحتوي على العديد من النباتات والزهور الموسمية إضافة إلى عدد كبير من الأشجار، ودار للأوبرا وهي الدار الوحيدة فى قطر، إلى جانب القاعات والمعارض المتنوعة التي تستضيف العديد من المؤتمرات والمعارض والندوات وورش العمل، والمطاعم والمقاهي وغيرها.

بالطبع هذه ليست الأماكن الوحيدة التي تستحق الزيارة فما زال هناك الكثير مما سأذكره لاحقًا.

انتهى كأس العالم، لكن الدرس الذي قدمناه للعالم لم ينته. فشكرًا على كل شيء أعاد لنا الكثير من الأمل في غد أفضل، وأظهر أننا قادرون على صنع المعجزات.

سوق واقف
المصدر : الجزيرة مباشر