جامع عمرو بن العاص العتيق وقد عاد إلى الحياة.. ما القصة؟

 

عادت الحياة إلى جامع عمرو بن العاص، أحد المزارات الدينية المُهمة بمنطقة الفسطاط القاهرية، ثاني أقدم مساجد مصر وأفريقيا، فلم يسبقه سوى مسجد سادات قريش في مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، أول مسجد بُني في البلاد عام 18هـ، بعد الفتح الإسلامي لمصر، عقب هزيمة الفارس القرشي قائد جيش المسلمين عمرو بن العاص، للحامية الرومانية بالمدينة. هذا الجامع العائد إلى الحياة (عمرو بن العاص) معروف بـ”تاج الجوامع” أو الجامع العتيق، إذ افتتحته الحكومة المصرية، رسميا، مع بداية شهر رمضان الجاري، بعد أن أتمت أعمال ترميمه وتجديده التي استغرقت 14 شهرا، بتكلفة بلغت 185 مليون جنيه.

  384 عمودا ومئذنتان.. وترميم المحاريب والمنابر والأسقف الخشبية

تطوير “الجامع العتيق” أشرف عليه الجهاز التنفيذي لتجديد أحياء القاهرة الإسلامية، وشمل ترميم مئذنتين (مآذن قصيرة على الطراز العثماني) والقبة و384 عمودا (رخام ومزايكو) والمحاريب والمنابر والأسقف الخشبية، وتزويده بشبكات للحريق والكهرباء، وربط “الساحة الخارجية” للمسجد (11 ألفا و300 متر مربع) معماريا بحديقة الفسطاط، لاستخدامها للجذب السياحي. ترميم “تاج الجوامع” يأتي مواكبا لمشروع تطوير منطقة “الفسطاط” (معناها خيمة كبيرة) التاريخية العتيقة، والمقصد السياحي لوافدين من أرجاء الكون، التي بناها الصحابي عمرو بن العاص، شمال حصن بابليون الروماني (قصر الشمع) بداية من سنة 20هـ (640م) بعد أن صار واليا على مصر، لتكون أول عاصمة لها بعد الفتح الإسلامي.

دروس الإمام الشافعي، وسلطان العلماء، والليث، وابن هشام

جامع عمرو بن العاص هو رابع مسجد جامع في العالم الإسلامي بعد المساجد الجامعة بالمدينة المنورة والكوفة والبصرة، وكان بمثابة جامعة قبل الأزهر الشريف (972م) والزيتونة التونسية (738م)، ويضم ضريح عبد الله بن عمر بن الخطاب. كثير من الأئمة وعلماء الإسلام ألقوا الدروس والخطب في الجامع العتيق، منهم صاحب المذهب الشافعي الإمام محمد الشافعي (767- 820م)، وإمام أهل مصر في زمنه الليث بن سعد (713- 791م)، والفقيه والقاضي سلطان العلماء وبائع الملوك الدمشقي العز بن عبد السلام (1181- 1262م)، والمؤرخ كاتب السير العراقي عبد الملك بن هشام (متوفي في مصر عام 833م)، والمفكر المصري الشيخ المُجدد محمد الغزالي (1917- 1996م)، وغيرهم.

   نبوءة الفناء لـ”تاج الجوامع”.. ورواق القبلة

مدير إدارة حفظ الآثار العربية محمود أحمد، في مقدمة كتابه “جامع عمرو بن العاص”، الصادر عن وزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم حاليا) قال عنه: “إن هذا الجامع نشأ متواضعا، ثم نما وكبر، وازدهر حتى حاز لقب “تاج الجوامع”، وأخيرا شاخ وهرم حتى قارب على الفناء”. رغم هذه النبوءة بالفناء، فإن “الجامع العتيق” ظل صامدا طوال 14 قرنا، يتحدى عوامل الزمن، وفي كل مرة يشارف على الانهيار أو التلاشي، تمتد إليه الأيادي بالترميم والتحسين والتوسيع، حتى صار أكبر جوامع القاهرة. تبلغ مساحة “الجامع” حاليا 27 ألف متر مربع، وتتزين نوافذه بزخارف إسلامية. يتكون الجامع من مدخل رئيسي و”صحن كبير” مكشوف، ووسطه قبة على ثمانية أعمدة رخامية، ومُحاط بأربعة أروقة مسقوفة خشبيا، منها “رواق القبلة” الأكبر، وفي صدره محرابان مجوفان، ومنبران، ولوحتان من العصر المملوكي على جدار القبلة.

  على غرار مقصورة الجامع الأموي

قصة ميلاد “الجامع العتيق”، كان عندما أسسه عمرو بن العاص عام 21هـ (641م تقريبا) على شكل مستطيل، بطول 50 ذراعا، وعرض 30 ذراعا، بلغة ذلك العصر البعيد، بما يعادل مساحة 315 مترا مربعا، لتُقام فيه صلاة الجمعة والجماعة، وليكون مقرا لاجتماع المسلمين. كان البناء الأول من الطين ومفروشا بالحصى، ومسقوفا بالجريد على أعمدة من جذوع النخل. بجوار المسجد أُقيمت دار لعمرو بن العاص، والي مصر، سُميت دار عمرو الكبرى، وثانية لولده عبد الله، وثالثة بناها الزبير بن العوام الذي شارك في بناء المسجد، وأحيط الجامع بطرق من حوله. ظل مسجد عمرو بن العاص على حاله، حتى جاء مسلمة بن مخلد الأنصاري واليا على مصر عام 47هـ (667م) من قِبل الخليفة معاوية بن أبي سفيان (608- 680م) أول خلفاء بني أمية المؤسس للدولة الأموية عام 661م، فقام مسلمة بتوسعة المسجد عام 53هـ، وفرش أرضه بالحصير لأول مرة. شهد عام 88هـ (706م) تولية الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (646- 705م) لشقيقه عبد العزيز بن مروان على مصر.. شرع الأخير عام 712م، في تنصيب منبر خشبي، وإقامة مقصورة على غرار مقصورة معاوية بالجامع الأموي في دمشق. عندما تولى قرة بن شريك حكم مصر، سنة 90هـ (708م)، هدم المسجد في عام 710م، وأعاد البناء، بعد توسعته بإدخال داري عمرو بن العاص وولده عبد الله، وجانب من الطريق المجاور، وأقام فيه محرابا مجوفا اقتداءً بمحراب الحرم النبوي، وانتهى من هذه الأعمال عام 712م.

الوزير شاور واحتراق الفسطاط.. والوالي صلاح الدين الأيوبي

احترق مسجد عمرو بن العاص وتهدم عام 564هـ (1168م) ضمن “مدينة الفسطاط” كلها، التي أحرقها الوزير شاور بن مجير السعدي، في العهد الفاطمي، عامدا بحجة خشيته من احتلال الصليبيين لها، إذ كانت مملكة القدس الصليبية توالي هجماتها على مصر. بعد تعيين صلاح الدين الأيوبي واليا على مصر عام 1169م، واستقلاله بها عن الدولة الفاطمية، لتكون النواة لدولته الأيوبية، أعاد بناء الجامع وتزيين المحراب الكبير بالرخام والنقوش.

تأكيد، هو اتجاه محمود، أن يجري الاهتمام بالمساجد التاريخية وترميمها وبعث الحياة فيها مُجددا.. ليت هذه الجهود تجري تحت إشراف خبراء الآثار، حتى يمكن الحفاظ على الطبيعة الأثرية لهذه المساجد، فهي أكبر عناصر الجذب للسائح أيّا كانت ديانته.

المصدر : الجزيرة مباشر