كارثة القرن.. وكل الحادثات إذا تناهت..

في هذا الموقف العصيب يأبى المداد أن يجري على الأوراق، فتلك واحدة من أصعب الظروف التي يمكن أن أخطها بيميني، لكني لما أخذت على عاتقي الكتابة بصفة دورية ومشاركة القارئ الأحداث الجارية، أقول لقلمي وقريحتي كما قالت الخنساء لعينيها: “أعيني جودا ولا تجمدا..”. إذ لم يكن ذلك اليوم في الحسبان، وكأن كل الأفكار قد تبخرت من الأذهان حين أفجعنا ذلك الخبر. فقد كانت أجنداتنا اليومية ممتلئة، كنا سنفعل كذا وسنكتب عن كذا وسنكمل العمل الفلاني… لكنها لم تضم هذا الحدث الذي طرق دون سابق إنذار. وعلى نفس المنوال كان الأشخاص الذين خلدوا للنوم تلك الليلة؛ قد ناموا على أن يكملوا حياتهم اليومية صباحا، أجساد صغيرة في عمر الزهور، وضعت ألعابها جانبها واستلقت في أحضان الليل الهادئ للاستيقاظ مع الطيور مبكرا؛ لتعود إلى المدرسة بعد إجازة أسبوعين… حياة طويلة في انتظارهم وطموحات الآباء وأحلامهم بالمستقبل…

وهنا في جنح الظلام يفاجئ الجميع مشهدا مصغرا من مشاهد يوم القيامة قاطعا قول كل خطيب على نحو المثل المشهور “قطعت جهيزة قول كل خطيب”؛ إذ لا مكان لجداول الأعمال أو الخطط اليومية أو أي قضية أخرى شرقية كانت أو غربية… هناك حقيقة واحدة شاخصة الآن هي الزلزال… وما تتركه وراءها من وفيات وإصابات وخسائر كثيرة في كل شيء، وكأنه لطمة إيقاظ وتنبيه لنا على معان وأهداف جديدة وتذكير بإهمالنا وسوء تصرفاتنا وجهلنا وطيشنا؛ حتى نرى معاينة: أن تلك الممتلكات التي جمعناها لأنفسنا في أنانية ووحشية ومنعناها الآخرين، كل تلك الأشياء يمكن أن يأتي عليها وقت تفقد قيمتها تماما ونحن في أمس الحاجة إليها.

ليس من رأى كمن سمع

الحقيقة المرة أننا غالبا ما نتابع على مدى حياتنا ونسمع عن هذه الكوارث والوفيات التي تحدث في أماكن أخرى وتصيب آخرين بعيدين عنا، وتنسينا الحياة اليومية بزخمها وسرعة وتيرتها، أن كوارث الآخرين إشارات إلى كوارث قد تصيبنا في أي لحظة.. وهذا بالضبط ما نعيشه يوميا من موت أشخاص حولنا فموتهم أيضا جرس نذير لنا أن انتبهوا فأنتم كذلك ستموتون.

ولكن الأمر الداعي إلى الحسرة والبكاء أننا بينما نحن جلوس على مقاعد مريحة نشاهد عبر الشاشات الكوارث التي يعاني منها الآخرون، نعيش لحظات من التغافل وتجاهل سنة الحياة لنتخفف من مسؤوليتنا اتجاه هؤلاء ومعاناتهم وآلامهم فلا نشاركهم ولا نحمل عنهم شيئا منها.. ما لنا ولهؤلاء؟! المشكلة مشكلتهم والآلام آلامهم!

لحظة نظام.. هناك نهايتان في هذا العالم الذي نعيشه، أولاهما النهاية الصغرى أو الفردية أي موت الأشخاص، والأخرى النهاية الكبرى التي تصيب جميع المخلوقات. أليس ما نعيشه هذه الأيام وما تمر به أمتنا، حالة بين هاتين النهايتين؟! ألا توجه انتباهنا إلى النهاية الكبرى، لنتساءل كم من الناس -عندما تقع القيامة الكبرى- يمكنهم الانشغال بالتفكير في استكمال برامجهم اليومية أو مهامهم الباقية من أمس؟!

تواجه أمتنا مع بزوغ فجر السادس من فبراير/ شباط الحالي، أكبر كارثة طبيعية في تاريخ الجمهورية التركية المؤسسة قبل قرن من الزمان. كارثة هي الأقرب إلى زلزال 17 أغسطس/ آب 1999، لكنها في الواقع أكبر بكثير من حيث شدتها ومدتها ومنطقة تأثيرها، إضافة إلى حدوثها في منتصف شتاء هو الأشد برودة أيضا، مما يزيد شدة الكارثة وآثارها أضعافا مضاعفة.

{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لاَ تَعلَمُونَ}. (البقرة: 216).

لعل العزاء الوحيد في هذا الشأن، هو أن قدرة تركيا وسرعتها وكفاءتها في مكافحة الكوارث الآن، قد زادت بشكل ملحوظ مقارنة بما كانت عليه قبل 24 عامًا. فمنذ اللحظات الأولى للحادث وتحت الظلام الدامس والبرد القارس، كانت هناك استجابات حقيقية في نقاط الكارثة المنتشرة في عدة مدن، وبدأت وحدات التدخل والدعم والمساعدات العمل في هذه المنطقة الواسعة تحت سواد الليل وبرودة الشتاء في الوقت نفسه. ورغم ذلك فقد بقي العديد من الأماكن المتضررة عدة ساعات لا يمكن الوصول إليها، وتقديم المساعدة لها. ومع ذلك، فإن التصرف الجماعي والتعاون الرائع بين الدولة والأمة في مواجهة مثل هذه الكارثة، باعث على الطمأنينة أكثر.

ولعل أبرز جهد في ذلك هو ما قامت به إدارة الكوارث والطوارئ (AFAD) وهي إحدى المنظمات التركية الرائدة التي اكتسبت خبرة واسعة في مكافحة الكوارث وتقديم المساعدات الإنسانية داخل تركيا وخارجها منذ سنوات، في مواجهة هذا الزلزال الذي يعدّ أكبر كارثة تتصدّى لها. وهي الآن تظهر كل تلك الخبرة وتعمل بكامل عناصرها في الميدان من خلال توظيف التعبئة العامة في تنظيم جميع المؤسسات والهيئات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني في تركيا.

السيناريو الكارثي

والحقيقة أن مثل هذا السيناريو الكارثي لم تتم دراسته ولم يكن في الحسبان على الإطلاق. لا أعتقد أنه يمكن أن يتوقع أحد مثل هذه الكارثة التي تضرب نصف مدننا الكبيرة و10 مقاطعات بهذه الطريقة. حتى أولئك الذين تحدثوا عن أنهم كانوا يتوقعون مثل هذا اليوم بالفعل، لم يتمكنوا في أكثر توقعاتهم تشاؤمًا من كتابة مثل هذا السيناريو الكارثي الواسع النطاق. ولا شك في أن كل كارثة تحذرنا وتفرض علينا اتخاذ إجراءات محاسبية من جميع النواحي. وكان الدرس الأكبر، والتحذير الأكبر، الذي علمنا إياه زلزال 17أغسطس/ آب 1999، وتركه محفورا في أذهاننا هو الاعتراف بحقيقة أن تركيا بلد زلازل. ولم تتوقف تلك الحقيقة عن الظهور مرارا وتكرارا من خلال العديد من الزلازل المتتابعة. ونتيجة لذلك تعالت الأصوات بأن علينا الاعتياد على الزلازل وأنها صارت أمرا واقعا. هل كان ذلك يعني مجرد المخاطرة كل مرة في مواجهة الأضرار؟! هل كان المقصود هو اتخاذ الإجراءات الاحترازية والاحتياطات في مواجهة الزلازل المستقبلية؟! لا أدري كيف سنعتاد على الزلازل؟! إنها لا شك أسئلة لا يمكن تجاهلها.. وبالطبع، الآن ليس الوقت المناسب. الآن وقت انتشال العالقين تحت الأنقاض، وتضميد الجراح، واستخراج الجثث، وتقديم التعازي.

وما لا يمكن تجاهله في هذا الحادث هو ما نراه من مبادرة جميع دول العالم وتنافسها في المشاركة وإظهار الوحدة والتضامن مع تركيا. لكن ما يقوم به بعض فاقدي الإنسانية من مظاهر الكراهية والدناءة أمثال صحيفة “شارل إيبدو” تحت مسمى الفكاهة والمزاح، يؤكد لنا أن مشاعر الحزن والألم والكوارث نعيشها ونتشاركها مع الأصدقاء فقط، وأنه لا يوجد شيء دون معنى ومغزى وراءه، وأن الحياة لن تتوقف لأحد بل إنها تنتظر من كل منا أن يقوم بدوره فيها، وأن كل إناء ينضح بما فيه مهما حاول أن يخفيه، فلولا صروف الدهر ما سقطت الأقنعة…

اللهم بارك في أمتنا واحفظها من كل سوء، اللهم اجعل في تلك المحنة منحة، اللهم ارحم من قضى، واشف كل المصابين شفاء عاجلا، اللهم ارزق أقاربهم وذويهم الصبر والسلوان، إن الله على كل شيء قدير.

المصدر : الجزيرة مباشر