طريقي إلى مونديال العرب

الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر يكرم ميسي بالبشت القطري
الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر يكرم ميسي بالبشت القطري (غيتي)

 

منحتني قطر ما لم يخطر ببالي حتى في أشد أحلام اليقظة تطرّفًا!

توقّفت عن ممارسة كرة القدم التي أعشقها، عقب كسر مضاعف في كاحل قدمي اليسرى، خلال مباراة على أرضية استاد جامعة المنيا في صعيد مصر، قبل نحو شهرين من اختبارات السنة النهائية في دراستي الجامعية.

لم أتصوّر وأنا أمضي ليلتي في مستشفى المنيا العام، وسط حسرتي على انتهاء مشواري مع رياضتي المفضلة، أنني سأكون يومًا ما في القلب من تنظيم أهم بطولات كرة القدم في العالم، بعد نحو عقدين من تلك الليلة الظلماء، والتي تسرّب إليّ إحساس غريب خلالها أن القطط التي ازدحمت بأصواتها جدران المستشفى، ستلتهم قدمي المحبوسة في جبيرة من جبس ليّن لم يجفّ بعد!

مَنْ كان يتصّور أن ذلك المُلقى على سرير بائس في مستشفى لا يقل بؤسًا، سينقل يومًا لجميع وسائل الإعلام في أنحاء عالمنا العربي، تفاصيل أعوام طويلة من التحضير لأهم حدث رياضي في العالم، ولأول مرة في بلد عربي!

إلى حيث لا تدري

جئت إلى الدوحة قبل نحو عشرين عامًا لأعمل في ورشة لتبديل إطارات السيارات، رغم وظيفتي الحكومية مدرسًا للغة الإنجليزية، والتي ما زلت أحتفظ بها إلى الآن، ورغم حصولي وقتها على شهادتين بعد دراستي الجامعية، لكنها الظروف التي دفعتني للسعي إلى رزق قدره الله ليّ في بلدي.

ما زلت أذكر حينها أن التكلفة التقديرية لهدم بيتنا القديم في القرية، وبناء منزل بسيط في موقعه، تحتاج إلى أن أعمل في وظيفتي الحكومية براتبها الهزيل لأكثر من 100 عام!

لن أنسى ما حييت نظرة الأم، التي أفنت زهرة شبابها في تربية أبنائها وسط قسوة الظروف، وهي ترى أحدهم يُنتزع منها إلى حيث لا تدري ولا يدري، وقد اعتقدت أن تخرّجه في الجامعة، وتسلّمه العمل، سيضع حدًا لسنوات الشقاء التي اعتصرتها، لكنها وجدت نفسها على موعد مع صنف آخر من الشقاء، يتجسّد هذه المرة في آلاف الأميال التي ستفصل بينها وبين فلذة كبدها.

بعد أن عملت في قطر لأكثر من خمس سنوات، غادرتها للالتحاق بمنصب إقليمي في إحدى شركات العلاقات العامة بالخليج العربي لثمانية أعوام، ثم يشاء الله أن أعود إلى الدوحة مجددًا بعد غياب دام هذه السنوات كلها، وبعد أقل من عامين من العمل في إحدى وكالات العلاقات العامة بالدوحة، جاءتني الفرصة التي لم أكن أحلم بها يومًا، لأنضم في العام 2017 إلى الفريق المسؤول عن تنظيم بطولة كأس العالم قطر 2022.

من ورشة لتغيير إطارات السيارات على طريق سلوى بالدوحة قبل عشرين عامًا، إلى برج البدع المطلّ على مياه الخليج العربي، وأتولى قيادة فريق المحتوى الإعلامي العربي، في اللجنة المنظمة لأول نسخة من كأس العالم في عالمنا العربي!

تحول في المسيرة

لا شك أن هذا التحوّل الهائل في مسيرتي المهنية ما كان ليحدث إلا في أجواء تكفل تكافؤ الفرص، وتتيح المجال أمام الجميع وفق الكفاءة لا غيرها، ما يؤكد الكلمات التي بدأت بها مقالتي، التي قد يراها البعض تحمل شيئًا من المبالغة، لكنها تعكس جانبًا يسيرًا مما شهدته على هذه الأرض الطيبة طوال الأعوام الماضية، فقد منحتني قطر بالفعل ما لم أحلم به يومًا.

أكثر من خمس سنوات في هذا الموقع، ولم يشغل تفكيري شيء أكثر من صياغة عناوين ومحتوى الأخبار التي كنا نعدها لتغطية المحطات الرئيسة على طريق المونديال، مثل مراحل تشييد الاستادات ثم افتتاحها، واستضافة البطولات والفعاليات التجريبية استعدادًا لكأس العالم، والتصفيات المؤهلة للمونديال، وتأهل المنتخبات للمشاركة في البطولة، وطرح تذاكر المباريات، والإقبال الهائل عليها، وإجراء القرعة النهائية، ثم انطلاق صافرة البداية، وصولًا إلى إسدال الستار على الحدث التاريخي في استاد لوسيل.

لم يفارقني الشوق طوال هذه السنوات لكتابة ولو أسطر قليلة من الخبر الذي سيوثّق ختام أفضل نسخة في تاريخ كأس العالم، إلى أن جاء اليوم المشهود، مساء 18 ديسمبر الماضي، ولم أستطع وقتها أن أحبس دموعي، وأنا أضع اللمسات النهائية على خبر الإعلان عن ختام منافسات أول نسخة عربية من كأس العالم.

يغمرني الآن شعور بالفخر والرضا لا يمكن وصفه، ولا يضاهيه إلا شعور بالامتنان لهذا البلد الكريم على إتاحة الفرصة أمامي للانضمام إلى فريق رائع في رحلة تاريخية إلى كأس العالم على أرض قطر.

وقبل ذلك وبعده، شعور بالخجل من كرم ربي الذي لازمني منذ يومي الأول في هذا المشروع التاريخي، وتنحني هامتي شكرًا على فرط رعايته وتوفيقه ومساندته، في ظل ظروف كادت أن تطيح بي على جانبي الطريق نحو المونديال، ووصلت -بفضل الله- إلى خط النهاية رفقة فريق متميز ومتنوّع شارك في تنظيم بطولة كأس العالم، التي نجحت قطر من خلالها في وضع معايير جديدة لاستضافة البطولات الرياضية الكبرى، بعد أن شهد العالم على أرضها نسخة استثنائية من البطولة.

مريم في قلب الحدث

رغم ضغوط العمل خلال أيام البطولة، حرصت على ألا أفوّت هذه الفرصة التي لن تتكرر، بطولة كأس العالم التي يشدّ الناس إليها الرحال قاطعين آلاف الأميال لحضور مبارياتها، هي الآن على بعد خطوات من عتبة دارك! ولذلك سعيت للاستمتاع قدر الإمكان بكرة القدم في أهم بطولة للعبة الأكثر شعبية في العالم، بعد أن حرمتني الإصابة من ممارستها.

الآن وبعد هذه السنوات كلها أتيحت أمامي الفرصة لأعيش أجواء المونديال مع مئات الآلاف من قطر وخارجها، ومشاهدة أبرز نجوم كرة القدم في العالم، وحضرت العديد من المباريات في استادات البطولة، ثمانية منها في استاد لوسيل، الذي يبعد عن منزلي أقل من 15 دقيقة سيرًا على الأقدام، وتحقق ما كنت أخطط له منذ سنوات، أن أسكن بالقرب من أكبر استادات المونديال، وأن أمشي إلى الاستاد رفقة زوجتي وابنتي لحضور مباريات كأس العالم الأولى في بلد عربي.

تكللت رحلتي مع المونديال بمشاركة طفلتي الوحيدة مريم في مرافقة نجوم كرة القدم من نفق اللاعبين إلى أرضية الاستاد، وخلال عزف النشيد الوطني للمنتخبين المتنافسين، في اثنتين من مباريات كأس العالم، الأولى في استاد البيت بين منتخبي السنغال وإنجلترا في دور الستة عشر، والثانية بين الأرجنتين وهولندا في ربع نهائي البطولة على أرضية استاد لوسيل، بحضور أكثر من ٨٨ ألف مشجّع.

ما أنجزته قطر في استضافة كأس العالم فاق توقعات الجميع، بما في ذلك المشاركين في تنظيم البطولة، وعندما نتمعّن في تفاصيل ما جرى على مستوى التنظيم الذي لم تشبه شائبة طوال أيام المونديال، ندرك أن ذلك بلا شك توفيق إلهي في مراحل البطولة كافة، منذ صافرة البداية وحفل الافتتاح المبهر، والأرقام القياسية التي سجلتها البطولة، حتى الختام بلقطة البشت العربي يزيّن قائد المنتخب الفائز باللقب، والتي ستبقى خالدة في تاريخ بطولات كأس العالم.

{ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف، من الآية: 38].

المصدر : الجزيرة مباشر