من يحق له إنهاء الحرب في غزة؟

يحيى السنوار قائد حماس في قطاع غزة
يحيى السنوار قائد حماس في قطاع غزة

من المعروف تاريخيًّا أن من يبدأ المعركة بشروطه، ويحقق فيها أهدافه الموضوعة سلفًا أو حتى بعضها، مهما كانت الخسائر الإنسانية أو المادية، هو وحده من يحق له إنهاء المعركة في الوقت الذي يريد كما بدأها في الوقت الذي أراد.

وهو وحده من يحق له أن يطرح شروطه على أي مائدة مفاوضات، وعلى الطرف المهزوم أن يتلقى جملة تلك الشروط بحثًا ومناقشة مع الوسطاء للوصول إلى حلول وسط تكون غالبًا في صالح المنتصر، خاصة إذا كان هو صاحب الحق التاريخي في الأرض وإن بدا هو الأضعف ظاهريًّا بمقاييس البشر العادية، علاوة على تعامله الأخلاقي غير المسبوق لأي من الجيوش العظمى مع أسراه.

وقد تابع العالم عظمة هذه المعاملة على الهواء عبر فضائية الجزيرة التي أضافت إلى المعارك بعدًا آخر في استحضارها تفاصيل الحرب، ونقلها الحدث الكبير على الهواء وعلى مدار الساعة بكل تفاصيله المدهشة.

فيتابع المشاهد حدثًا وأداءً عسكريًّا وأخلاقيًّا وإنسانيًّا من بقايا عصور قرأنا عنها في كتب التاريخ، ولم نشاهدها واقعًا إلا من خلال المقاومة الفلسطينية الباسلة اليوم في مقابل غطرسة العدو وغشمه ويده الثقيلة على الأسرى الفلسطينيين وتعامله غير الإنساني، ضاربًا عرض الحائط بكل الأعراف والقوانين الدولية التي تكفل حماية الأسير، وبعد أن اقترب عدد شهداء غزة من 22 ألفًا معظمهم أطفال ونساء، حسب إحصاءات وزارة الصحة في القطاع.

أروع آيات الثبات

ورغم ما تكبدته المدينة بأحيائها ومخيماتها من أهوال في أكبر عملية إبادة بشرية وفيما يشبه “الهولوكوست” المرعب، ورغم تخريب البنية التحتية بما فيها المستشفيات التي تعرضت للقصف وقتل وحشي للمرضى والمصابين، فإن الشعب الفلسطيني في غزة قد ضرب أروع آيات الثبات والبطولة، وسجلت المقاومة انتصارها الساحق في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واستمرت في تقديم المعجزات التي نتابعها بأنفاس لاهثة حتى كبدت العدو خسائر، أهمها النيل من مكانته وتحطيم الأسطورة التي حرص على تلقينها لشعبه قبل تلقينها للشعوب الأخرى.

ليفقد تعاطف شعوب العالم بنسب تتجاوز 70% حسب الصحف الأمريكية والإسرائيلية، فتنشر نيويورك تايمز مقالًا تحت عنوان (هجوم السابع من أكتوبر زعزع إيمان الإسرائيليين بالدولة اليهودية)، ويتحدى المحلل العسكري اللواء فايز الدويري العالم في أنه خلال الأيام القليلة المقبلة سوف تحسم المقاومة الفلسطينية المعركة، بفضل الله ومعجزاته التي ينكرها الماديون رغم ظهورها بوضوح في غزة، وأنه سرعان ما سترضخ حكومة الكيان لجميع الشروط الفلسطينية.

مبادرة للحل أم قبلة حياة؟

من يقرأ بنود المبادرة الأخيرة في ذلك الوقت يصيبه العجب، وكأن الإدارة التي وضعتها لا تتابع المشهد، أو كأنها وضعت تلك البنود في وقت سابق كانت تحسب فيه أن هزيمة حماس وكتائب الأقصى أمر محتم، وتسعى بنودها للحصول على هدنة إنسانية تُنفذ على ثلاث مراحل، تفرج خلالها حماس عن باقي الأسرى من النساء والأطفال والمرضى، ثم النساء المجندات، ثم جميع الأسرى في مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين يجري الاتفاق عليه فيما بعد، ومقابل تخلي حماس عن السلطة في غزة.

وظاهر الأمر أن المبادرة هي مجرد محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لحفظ ماء وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تنتظره محاكمة بتهم فساد حال انتهاء الحرب بهذه الهزيمة المنكرة، التي قُتل فيها أكبر عدد فقده الكيان في حرب من جنوده وقياداته، علاوة على الخسائر اليومية التي تُقدَّر في بعض التقارير بالمليارات.

مما دعا الجيش الذي لا يُقهر إلى طلبه من الجنود الحفاظ على الذخائر توفيرًا لها وتوفيرًا للنفقات التي ما عادت في قدرة ميزانية الدولة، ليست مبادرة، بقدر ما هي اتفاقية إنقاذ نتنياهو.

ولذلك كان من البديهي أن يخرج القائد يحيى السنوار إلى جانب حركة الجهاد برسالة قوية يرفض فيها تمامًا ذلك المقترح وتلك المبادرة، لا بوقف الحرب بتلك الشروط المجحفة بل والمثيرة للسخرية، وكذلك اقتراح تخلي حماس عن السلطة في غزة بعد أن صنعت تلك النقلة الخطيرة والقوية في إنشاء جيش فلسطيني منظم يكافئ في أدائه ما يسمى الجيش الأقوى، بل تفوّق عليه على الأرض، ولولا سلاح الطيران لحُسمت المعركة منذ الأيام الأولى لطوفان الأقصى.

نضج خطاب

اتسمت المقاومة في غزة بعمق خطابها السياسي منذ نشأتها، اتسمت بالشجاعة والقوة والوضوح في طرحها لمشروعها الذي أسسها عليه الشيخ الشهيد أحمد ياسين، وهو تحرير كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم تغيّر حماس خطابها أو تتحايل عليه رغم صعوبة الظروف التي تعيشها، والمعارك والضربات التي تخوضها كل عام تقريبًا، وتفقد خلالها الآلاف من الشهداء دون أن يؤثر ذلك على أدائها. وفي كل معركة كانت تبدو أكثر قوة وتنظيمًا وتطورًا لمنظومتها الدفاعية التي بنتها في الأنفاق التي لم تظهر أسرارها كاملة بعد، وصار من أهم معالم الانتصار في غزة هو استمرار حماس في الحكم والسيطرة على الأرض بأرضها وأنفاقها، وهو الضامن الوحيد لاستمرار الجيش الناشئ في تحقيق آمال الفلسطينيين في الحفاظ على أرضهم وتاريخهم، وتجاوز فرض تغريبة جديدة عليهم وشتاتهم في الأرض من جديد.

فكيف لأي جهة أن تطلب من جيش مسيطر على أرضه هذه المطالب؟ وكيف لهذا الجيش أن يقبل من الأساس وهو يرى من خلفه ثبات شعبه ودعمه وتأييده إيمانًا بقضيته؟ وقد أعلن رئيس وزراء الكيان ووزير حربه أن الهدف الأول من الحرب بعد تحرير الأسرى هو تقويض حكم حماس واستسلام قادتها أو قتلهم أو ترحيلهم إلى أي دولة عربية كبديل مطروح، فكيف يقبل الشعب الفلسطيني في غزة بتلك الهدية المجانية بعد حجم التضحيات غير المسبوق الذي دفعه المدنيون دعمًا للمقاومة وإيمانًا بها؟

لقد سعى نتنياهو عبر البوابات الخلفية ومن خلال الأمريكان للوصول إلى أي مبادرة تضمن أي انتصار ولو وهمي، ليقدمه إلى شعبه الذي صار له عنده قصاص وحساب ربما يدفع فيه كرسيه ثمنًا له على أقل تقدير.

وقد انقسمت حكومة الكيان على نفسها بعد الضغط الشعبي الكبير عليها لقبول أي مبادرة تُخرج الأسرى، وتسحب أبناءهم من الجيش المتورط في متاهات غزة فيعود بحاويات كل يوم جثثًا ومصابين ومعاقين مدى الحياة، إن الحكومة الإسرائيلية في ورطة كبيرة، وقد حُسم الأمر منذ السابع من أكتوبر لصالح المقاومة.

ولقد قامر نتنياهو بمستقبل دولته كلها ووجودها بالمنطقة فيما يبدو أنه بداية النهاية للوجود الإسرائيلي في فلسطين، وعلى عقلاء الكيان وداعميه أن يعلموا أن عليهم التضحية به كي يحافظوا على كيانهم إذا أرادوا كسب بضع سنوات أخرى، أو التضحية بالكيان نفسه حفاظًا على رئيسه وعلى أنفسهم قبل الحساب الكبير.

لقد نضجت المقاومة سياسيًّا وعسكريًّا، وصار لها مخالب تحارب ببعضها وتفاوض بأخرى، وتعي تمامًا ما تريد وكيف تصل إليه، وأصبح لزامًا على الوسطاء مراعاة ذلك النضج وتلك القدرة حقنًا لدماء الأبرياء في القطاع، بعد أن مُحيت مئات وربما آلاف الأسر من السجلات المدنية تمامًا.

المصدر : الجزيرة مباشر