التبعية العمياء للهيمنة الأمريكية

الرئيس الأمريكي جو بايدن
الرئيس الأمريكي جو بايدن (الفرنسية)

“أمريكا هي الفيل الذي تنام بجانبه أوروبا، وكلما تحرك هذا الفيل ميمنة أو ميسرة اهتز الجميع حوله”، ويمكن القول إن هذا الوصف للعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا هو الأقرب إلى الحقيقة، كما أورده الدكتور مصطفى الفهدواي في كتابه “السياسة العامة”.

هذه الهيمنة الأمريكية أطلق عليها الفهدواي أيضا المستوى العقيم في الواقع العالمي والدولي موضحًا أنها مستوى شاذ نتج عن مفارقات القوة والهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية يتمثل في سيطرة وهيمنة أمة أو دولة على دول أخرى، إذ تولت الولايات المتحدة الأمريكية هذه المهمة القيادية وأصبح هذا المستوى العقيم للسياسة العامة شائعًا ويشكل مرجعًا تستند إليه المنظمات الدولية في أغلب قراراتها وسياساتها المتخذة بصورة علنية.

ويمكن القول إن أكبر خطر نتج عن هذه السياسة الشاذة التي سادت وما زالت هو إغفال القيم الخاصة بالمجتمعات وبالقانون الدولي الإنساني والاتفاقيات التي تنص على حرية الإنسان وحفظ كرامته؛ مما أدى إلى انتهاك سيادة الدول والكيل بمكيالين ولا سيما إذا كان هذا الأمر يتعلق بدول في الشرق الأوسط كما هو الحال بالنسبة لفلسطين والعراق وليبيا وأفغانستان وغيرها من الدول.

ولا يخفى على أحد أن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على الدول التي تدور في فلكها ظلت طوال عقود ترتكز على إيجاد دول تسيطر عليها وتوجهها، فهي كمن يدير العالم عبر الذكاء الاصطناعي، فحين تضغط على زر هناك يتم توجيه كافة القرارات باتجاهه، فبمجرد أن تضع جهة ما في قائمة الإرهاب بدون أدلة واضحة، فإن الدول التي تدور في فلكها تبصم بالعشرة على أن هذه الجهة إرهابية وتتوالى القرارات من تلك الدول لإدانة هذه الجهات أو الأشخاص وهو ما رأيناه عندما أعلنت فرنسا أنها جمدت أصولا للسنوار في فرنسا، ذلك القرار الذي أصبح نكتة في مواقع التواصل الاجتماعي.

سيطرة أمريكية على السياسات الأوروبية

ومن هذا المنطلق تبدو العلاقة بين أمريكا ودول أوروبا أكثر تعقيدًا، وحتى لو فترت هذه العلاقة أو تخللها البرود في فترة معينة، فإنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى أكثر قوة بإشارة من أمريكا، إذ تسيطر هذه الأخيرة على سياسات هذه الدول الخارجية والعسكرية وتوجهها لمصلحتها.

ولعل ما أوجد هذه الهيمنة الأمريكية على دول أوروبا التي يصعب الفكاك منها في القريب المنظور على الأقل، هو استغلال أمريكا للضعف الذي خرجت به دول أوروبا من الحرب العالمية الثانية ودعم واشنطن لهذه الدول اقتصاديًّا وعسكريًّا، وهذا الدعم بالطبع لم يكن عن حسن نية وإنما كان كمن يعطي باليد اليمنى ليأخذ باليد اليسرى.

وعند الحديث عن حلف “الناتو” نجد أن هذا الحلف تسيطر عليه أمريكا أيضًا ويمكن القول إن أمريكا هي صاحبة اليد العليا في هذا الحلف ولعل اعتماد أوروبا على هذا الحلف الذي تديره واشنطن لحمايتها جعلها مغلولة اليد في أغلبية القرارات التي تتخذها واشنطن وبشكل خاص في دول الشرق الأوسط وهو ما يفسر الرحلات المكوكية التي أجراها مسؤولون أوروبيون إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي لاحتضانها ودعمها بعد السابع من أكتوبر، وذلك بعد أن قام بايدن بهذه الخطوة ليسير القطيع الأوروبي خلفه.

لكن كل ذلك لا يبرئ تلك الدول من جرائمها ضد الإنسانية فتاريخ الدول الأوروبية الداعمة للكيان الصهيوني لا يقل دموية في الدول التي استعمرتها، لذلك فإن وحشية الاحتلال الصهيوني في فلسطين هي نسخ مكررة لما قامت به تلك الدول في مستعمراتها وكأنه نهج ثابت تستخدمه، شعاره الوحشية ولا مكان للرحمة.

هكذا تدير الهيمنة الأمريكية أو ما يطلق عليه “القطب الواحد” العالم، يفتعل صراع هنا وحرب هناك ليجعل الجميع مشغولا بنفسه، وغالبًا ما ينتج عن هذه الصراعات تفكك وتصدع للدول التي تخرج منها أمريكا بلا نتائج حاسمة.

فيتو أبدي لصالح إسرائيل

ولأجل كل تلك الأسباب وسعي أمريكا للحروب والنزاعات خاصة في الشرق الأوسط، لم نصطدم بالفيتو الأخير الذي صوتت به لصالح إسرائيل ضد وقف الحرب على غزة وهو الفيتو الـ44 الذي تصوت به لصالح دولة الكيان في مجلس الأمن، إذ سبقه فيتو عام 2017 بتصويتها ضد مشروع قرار يرفض إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها من تل أبيب.

وفي عام 1973 استخدمت الولايات المتحدة هذا الحق لصالح إسرائيل ضد مشروع قرار يؤكد حق الفلسطينيين ويطالب بالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل والقائمة تطول إذ تكرر هذا الفيتو الأمريكي ضد أي قرار لصالح الشعب الفلسطيني منذ زرع الكيان الإسرائيلي في فلسطين.

هذا الفيتو الأمريكي لصالح إسرائيل الذي يبدو أبديًّا، يصب في مصلحة أمريكا أولًا وأخيرًا، فلطالما أكد الرؤساء الأمريكيون أن وجود إسرائيل في الشرق الأوسط أمر حيوي لدعم مصالحها في المنطقة، فالإصرار الأمريكي تمكن قراءته بأنه حرب وجودية لأمريكا في المنطقة بوكالة إسرائيلية.

ولعل أهمية هذا الوجود الشاذ في قلب الوطن العربي بالنسبة لأمريكا هو بدافع بقاء واستمرار السيطرة على المنطقة العربية التي تعتبرها “قلب العالم” من خلال وجود كيان يمثلها حتى وإن كان هذا الكيان لا يشبه محيطه لذلك تسعى واشطن بكل الطرق لإذابة هذا الكيان في الدول العربية عبر التطبيع أو ما يسمى بالاحتلال الناعم من خلال التعاون الاقتصادي والعسكري وغيره، كل ذلك بهدف تأمين وجود هذا الكيان واستمراره.

إن الرهان على بقاء غزة يعني بالمقابل زوال إسرائيل أو قرب زوالها، هذا ما تردده أمريكا ومن خلفها دولة الاحتلال منذ قرابة أكثر من شهرين على الحرب الدائرة على غزة، وذلك لأن انتصار المقاومة يمثل كابوسًا أسود يبدد حلم إسرائيل في البقاء وتشكيل شرق أوسط جديد يكون فيه التفوق لدولة الاحتلال.

يقول المثل الشعبي “يبكي مع الراعي ويأكل مع الذئب”، ولعل هذا المثل ينطبق على سياسة أمريكا مع الدول العربية، فهي تعيد وتكرر أنها صديقة للعرب، وفي الجانب الآخر تؤكد أن أمن إسرائيل على رأس أولوياتها، ففي الوقت الذي يرفع فيه مندوبها في مجلس الأمن يده بغير استحياء لدعم الإبادة الجماعية في غزة، تقدم لإسرائيل آلاف الأطنان من المتفجرات، وتؤكد حرصها على سلامة الشعب الفلسطيني، يا ترى أيهما نصدق؟

المصدر : الجزيرة مباشر