الموت ليس في غزة بل إنها الحياة والوجود

فلسطيني ينتحب على أحبائه الذين قتلهم القصف الإسرائيلي على المناطق السكنية في قطاع غزة
فلسطيني ينتحب على أحبائه الذين قتلهم القصف الإسرائيلي على المناطق السكنية في قطاع غزة (رويترز)

 

ها هو التاريخ البشري يخوض تجربة ذات سمات خاصة مرة أخرى، إذن نعيش الآن مرحلة تاريخية قاسية تتساقط فيها الأقنعة التي تبدو للوهلة الأولى بريئة، وعلى رأسها قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك تظهر حقيقة المنظمات التي ما أنشئت في الواقع إلا لحماية مصالح فئة معينة وطوائف بعينها فقط، وقد بات ذلك واضحًا لا يخفى على ذي عينين في تلك الأيام المؤلمة.

وإنني ككاتب لهذا المقال، لست مندهشًا أو مذهولًا مما يحدث ومما سيحدث في المستقبل.

كونك إنسانًا متميزًا

وأنت أيضًا إذا تعقَّبت بعناية ما حدث في العالم الإسلامي على مدى العقدين الماضيين، فستدرك أنه لا توجد أي دواعٍ للدهشة أو الاستغراب من تلك الأحداث التي نعيشها اليوم، لأن “أصحاب الامتيازات” يعتقدون بأن القيم الغربية تنطبق فقط على “البشر المتحضرين”، وأنها لا تتضمن من يُطلق عليهم “بشر شرقيون” حيث إنهم ليسوا في مستوى البشر ذوي المستوى الأعلى، وفي مقابل التعريف بعبارة “البشر المتحضرين”، يمكن أن يكون هناك “بشر نوعيون مشابهون للإنسان” أو حتى يمكن تسميتهم بـ”بشر حيواني”، وبالتالي يمكنك أن تفهم وتقيِّم الأساليب السياسية جميعها لأصحاب الامتيازات من خلال هذه الأفكار والتصورات.

وبالطبع فإن عدم كونك “إنسانًا متميزًا” في الواقع لا علاقة له بالجغرافيا، كما أن ذلك أيضًا لا علاقة له بما إذا كنت يهوديًّا أو مسيحيًّا أم لا، فالمعيار الوحيد الصحيح هنا هو هل أنت مفيد حقًّا أو غير ذي فائدة لأصحاب الامتياز؟ والحقيقة التي تعيشها البشرية الآن هي أن عدم تصنيفك على أنك إنسان غير متميز يعتمد على كونك غير مفيد لهؤلاء الذين يطلقون ألقاب التميز ويقدمون لهم الجوائز العالمية، ومثال ذلك عندما ارتُكبت الإبادة الجماعية في مذبحة “سريبرينيتسا”، قال علي عزت بيجوفيتش: “لم أكن أتوقع إبادة جماعية ومأساة مثل هذه في تلك الحقبة التاريخية التي نعيشها، ولم أكن أعتقد أن يخون الغرب قيمه بهذا الشكل الفج وفي عقر داره بشكل واضح”، ولكنه من زاوية كان مخطئًا في حساباته تلك في تعامله مع الغرب، لأن عدم كونك إنسانًا متميزًا يعني لدى أصحاب الامتيازات هؤلاء هو أن تكون “مسلمًا”.

وهكذا استنادًا إلى محتوى الفقرات السابقة التي قدمتها، يبدو أن مفهوم “الإنسان المتميز” الذي تستخدمه بعض الجهات أو الأفراد للتلاعب بالسياسة وحقوق الإنسان. هذا المفهوم يتعلق بما إذا كانت أفعالك تفيد الأشخاص الذين يمتلكون الامتياز أم لا، ويتعين عليك فهم الأحداث والسياسات على هذا الأساس.

وتذكروا أن أصحاب الامتياز هؤلاء لم يعترفوا بإرادة الشعب الفلسطيني بعد صدور نتائج الانتخابات في فلسطين وفوز المعارضة بتشكيل الحكومة، ومرة أخرى أيَّد أصحاب الامتياز أنفسُهم الانقلابَ على الحكومة المنتخَبة في مصر، كما أنهم لم يقبلوا نتائج الانتخابات في العراق، فالديمقراطية ونتائجها بالنسبة لأصحاب الامتيازات شيء يكون له قيمة وجدير بالاحترام فقط إذا جاء لصالح الطبقة العليا.

القواعد الموضوعة لليهود

وقد كان المفكر التركي العظيم عصمت أوزيل يشير في الحقيقة إلى هذه الامتيازات وأصحابها عندما قال: “إن حقوق الإنسان هي القواعد الموضوعة لليهود ليعيشوا براحة أكبر في جميع أنحاء العالم، وقد شغل ذلك مساحة كبيرة في كل الأدبيات”، ولذلك يمكننا قول الكثير عما يحدث في غزة اليوم، فقد يتساءل المرء لماذا يحدث هذا؟! لكن الشيء الأساس الذي نحتاج إلى معرفته في هذا السياق هو أن هناك نظرية عميقة وراء الموقف الأساس لأصحاب الامتياز، فأصحاب الامتيازات في الواقع لا يروننا ولا يهتمون بنا، وكأنهم ليسوا بشرًا مثلنا.

وعلى الرغم من هذه الأساليب المجنونة كلها والقوة الغاشمة، فإن الناس في غزة يقاوِمون ويقاتِلون من أجل كرامتهم، ويضحون بحياتهم في مواجهة المستحيلات كلها، ففي غزة يموت طفلٌ كلَّ 8 دقائق، لتبقى الدماء البريئة للأطفال والنساء وكل العُزَّل والمقاومين للعدوان علامةً سوداء في جبين البشرية كلها.

والحقيقة التي لا يمكن لهذه الدول الغربية التي تقدم تلك الامتيازات كلها للعدوان، هي أنها كدول راعية للظلم والوحشية إذا لم توقف هذا الظلم فإن السحر لا بد يومًا ينقلب على الساحر، لتعاني تلك الدول من توجهات ونبوءات وجنون هذا العدوان الذي تدعمه، وسيسبب مشاكل كبيرة داخل الدول الغربية كلها يومًا ما.

فإذا تجاهلت الجهات الرسمية السياسية الغربية الجهود المبذولة لتشكيل تحالف مع الدول الشرقية، وخاصة مع تركيا، لمواجهة أصحاب الامتيازات، ولم تتخذ الإجراءات اللازمة لوقف هذا السلوك الجنوني والاستخدام غير المنطقي للقوة، فإن صرخات أهل غزة سوف يتردد صداها في شوارع الدول الغربية، ولن تتوقف التحركات الشعبية المدنية عن الضغط عليهم.

إن منطقتنا حبلى بأحداث كبرى ودمار ومعاناة واسعة النطاق، وكما قال وزير الخارجية التركي السيد هاكان فيدان: إما أن نذهب إلى سلام كبير أو إلى حرب كبيرة، فبالنسبة لنا دم الإنسان مقدَّس، لذلك فإن من مقتضيات إنسانيتنا ومبادئنا أن نكون طرفًا إلى جانب السلام وليس الحرب، لذلك فإن أهم خطوة في إحلال السلام هي أن نكون أقوياء ومتحدين، وفي هذا السياق يتعيَّن على الدول الإسلامية أن تتجنب الصراعات الداخلية وتتخلى عن مصالحها القصيرة الأجل وتتحد وتسير يدًا واحدة نحو المستقبل، فاتباع نهج بخلاف ذلك لا يمكنه إنهاء دائرة العنف في المنطقة والعالم.

مسألة أخلاقية

في ختام هذا المقال، أرى أنها مسألة أخلاقية وواجب إنساني أن أخصص تلك الكلمة للأبطال الذين يعيشون في غزة.

وكما هو معلوم أن كبار الصوفية يُعرِّفون كلمة “الموت” بأنها “الكينونة”، ويقولون: “أننا جئنا إلى هذا العالم لا لنموت، بل لنكون”، وسبب مقولتهم تلك حسب تعبيرهم أنهم بلغوا الكمال في العالم بسبب طاعتهم واتباعهم للأوامر الإلهية، ومما لا شك فيه أن الطريق الأكثر وضوحًا ليصل الإنسان إلى الكمال هو الاستشهاد في سبيل الوطن والأمة والمقدسات، وما يحدث في غزة اليوم مع أنه اضطهاد وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية من ناحية، فهو من ناحية أخرى، علامة فارقة وبصمة لا تُمحى من التاريخ دليلًا على شجاعة الملايين المخلصين لربهم.

لأن أولئك الذين استشهدوا في غزة لم “يموتوا”، بل “أصبحوا” شهداء خالدين، ومرة أخرى فإن هؤلاء الأبطال في غزة بشجاعتهم وصدورهم التي لا تهاب الموت يكشفون عن إيمان وصل إلى حد الكمال الوجودي.

ولهذا السبب فإن أهل غزة الذين وصلوا إلى ذلك الكمال لا يقبلون إلا أن يسيروا بلا خوف نحو الموت الذي يعني في الحقيقة الحياة.

المصدر : الجزيرة مباشر