ما بعد نكسة إسرائيل في 7 أكتوبر

نتنياهو (رويترز)

متى يمكن للمقاتل أن يحتسي نخب انتصاره؟

إن الحروب لا تُحسم بأعداد الضحايا، ولا بحجم دمار البنية التحتية فحسب، بل إنها تضع أوزارها، متى حقق طرف من طرفيها هدفه السياسي، عندئذٍ فقط بوسعه أن يحتسي نخب الظفر، ومن ثم يملي شروطه على المهزوم.

هكذا هي الحروب التقليدية، حين يواجه جيش جيشًا، غير أن معارك التحرر لها حسابات مغايرة، فالجمع والطرح والضرب والقسمة، ليست من قوانينها، ولو كانت كذلك، لما انتصر الجزائريون على الاحتلال الفرنسي، بعد تقديم أكثر من مليون شهيد، ولا حارب الفيتناميون الجيش الأمريكي حتى خرج من بلادهم مدحورًا.

وسواءً افترضنا أن العدوان على غزة حربًا كلاسيكية، وهي بالطبع ليست كذلك، أو جولة صراع في إطار نضال ضد كيان استيطاني، فإن نتيجتها لن تكون لمصلحة الاحتلال، معنويًا وعسكريًا وسياسيًا، والمؤكد أن رئيس الائتلاف الحكومي، بنيامين نتنياهو مهزوم قبل أن يحارب، ومهزوم بعد أن يحارب، ومهزوم ما بين هذا وذاك، وهذه ليست نبوءة عرّاف يطالع كرة بلورية، أو “يوشوش الودع”.

وفي صدارة أسباب الهزيمة، أن نتنياهو ورّط نفسه، برفعه سقف الهدف السياسي لعملية “السيوف الحديدية”، إذ صرّح لدى إعلانها، بأن الحرب لن يهدأ لها أوار، إلا باستئصال حركة المقاومة الإسلامية (حماس).. ولعل هدفًا كهذا مستحيلٌ تحقيقه، نظرًا لحقائق موضوعية يعلمها نتنياهو بالطبع، لكنه فيما يبدو، أدلى بتصريحه ذاك إذ كان، وكان الجيش الإسرائيلي والمجتمع معه، يترنح إثر ضربة المقاومة القاصمة في السابع من أكتوبر.

استحالة تحقيق هدف نتنياهو “المعلن”، يرجع في المقام الأول، إلى تغلغل مقاتلي القسّام في النسيج المجتمعي بقطاع غزة، كما تقرر ورقة بحثية لمركز “مالكوم كارينغي الشرق الأوسط”، إذ تقول: إن هدف القضاء على “حماس” لن يتأتى، ما لم تدخل إسرائيل كل بيت في غزة، فتقبض على آلاف المشتبه فيهم.

وتمضي الورقة التي صدرت في 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي قائلةً: “مع افتراض أن فرصة طرق الأبواب ودخول البيوت ستتاح للإسرائيليين، وأنهم سيحققون مع الناس، لتحديد ولاءاتهم وذلك في خضم جبهات عسكرية، مهيأة للاشتعال في لبنان وسوريا، وربما اضطرابات في الضفة الغربية، فإن النصر ليس سهل المنال”.

ومن المُحتمل، وفق الورقة ذاتها، أن يستنسخ الإسرائيليون نموذج حصار بيروت الغربية عام 1982 الذي أرغم منظمة التحرير على الخروج، لكنه لم يقضِ على المنظمة، فالخروج من العاصمة اللبنانية، لم يخمد جذوة المقاومة، حتى اندلعت الانتفاضة الأولى بعدئذٍ بخمس سنوات.

إن مقاومة الاحتلال ليست حكرًا على فصيل، والشعوب تصنع أطرًا وآليات النضال بطرق مدهشة، وتخترع ملاحم الصمود بوسائل لا تخطر على بال جلاديها.

 

حتميات المعركة ونتنياهو “الفاشل”

 

على الصعيد ذاته، فإن هناك معوقات تتعلق بطبيعة المواجهة المباشرة، بين جيش الاحتلال وكتائب القسام “غير النظامية”، على رأسها أن الحرب ستجري في بيئة حاضنة، ولها ثارات تتراكم كل ثانية، جراء الجرائم الوحشية التي تقترفها إسرائيل، بكرةً وعشيا.

والثابت أنك إن تقترف مثل هذه الجرائم، ثم تدخل أرض ضحاياك، فعليك أن تستعد لمعركة شرسة وطويلة، ومن ثم توطن النفس على تكبد خسائر ليست هينة في أرواح جنودك، وفي هذه الحالة، لا بد من أن تضمن اصطفاف الجبهة الداخلية.

تلك حتميات، وأغلب الظن أن “نتنياهو” الذي يُوصف على نطاق واسع في الداخل الإسرائيلي بـ “الفاشل”، ليس بإمكانه الاستجابة لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس رئيس حكومة “متفقًا عليه” ذا شعبية كاسحة، على غرار الجنرالات الأوائل، أولي البأس الشديد، ممن اقترفوا المجازر، التي تلبي شبق المجتمع المتعطش للدماء.

لقد نفد رصيده، وهو الآن على باقة: “خلّصنا من حماس، وحرّر الأسرى ثم اذهب إلى الجحيم”، والمظاهرات التي تطالب بإسقاطه لا تنقطع، ومنها مظاهرة في الأسبوع الأخير من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي رفع المشاركون فيها صور أسرى “طوفان الأقصى”، وطالبوا بتحريرهم قبل الاجتياح البري، وهم يهتفون: “بيبي قاتل”، فضلًا عن مظاهرة ثانية قبل أيام تطالب بوقف الحرب.

إن ظهيره الشعبي يناصبه العداء، ما يشكل ضغطًا ثقيلًا على ائتلافه الحكومي، متى اشتد وطيس الاجتياح البري، ومتى شرع جيش الاحتلال يتكبد الخسائر البشرية، بدرجة أفدح، في المواجهات “في الأنفاق” تحت الأرض، وكذا المواجهات في الشوارع والأزقة الضيقة.

والمثير للاهتمام أن مطالب الرأي العام الإسرائيلي بتحرير الأسرى، قد حدت بالقيادي القسّامي أبو عبيدة، إلى استغلالها سياسيًا، فإذا به يعرض صفقة: “الكل مقابل الكل”، أي كل الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال، وعددهم وفق مركز المعلومات الوطني الفلسطيني “وفا” يبلغ 4 آلاف و740 أسيرًا، مقابل الأسرى الذين وقعوا في يد المقاومة.

مناورة ذكية لمّاحة، أو قل فخ سياسي ماكر.. هي صيغة إذا قبلها نتنياهو فسيبدو كأنه يرفع الراية البيضاء، وإذا رفضها فإن أهالي الأسرى سيصبون عليه لعناتهم.

 

اشتباك سياسي وجبهة داخلية متآكلة

بجانب تآكل الجبهة الداخلية، تتربص المعارضة اليسارية الدوائر، إذ هي حانقة مستنفرة بعد خسارتها معركة قانون التعديلات القضائية، الذي جيّشت قواها لمنعه، غير أن نتنياهو والذين معه، أصروا على تمريره، وحوّلوا الخلاف إلى معركة صفرية، وصفوا خصومهم فيها بالخيانة، ما حدا بالمعارضة إلى اعتبار الائتلاف اليميني الحاكم خطرًا على إسرائيل، كونه يشق الوحدة الداخلية، إلى درجة أن سؤالًا على نحو: هل نمضي نحو النهاية؟ أو متى تنتهي دولة إسرائيل؟ صار شائعًا ومستساغًا على نطاق بحثي وشعبي.

على أن الإرهاصات بشأن نهاية “الدولة العبرية” لا تقتصر على اللحظة الراهنة، ولا ترتهن بالهزيمة “المؤكدة” في العملية العسكرية فحسب، بل إن “حديث الزوال” يدور منذ أكثر من عقدين، وهناك سياسيون ومفكرون يعتقدون أن “النزعة الهتلرية” التي تطغى على الدولة ستؤدي إلى انهيارها، ومنهم “أفراهام بورغ” رئيس الكنيست الأسبق، الذي يكتب منذ بداية القرن الجاري محذرًا من أن إسرائيل على شفا جرفٍ هار.

في غضون الانتفاضة الثانية، عام 2003 كتب “بورغ” في “الغارديان” البريطانية، تحت عنوان “نهاية الصهيونية” أن تمسك إسرائيل بعقلية الإقصاء والانغلاق، فضلًا عن الممارسات الوحشية ضد الفلسطينيين، كلها عوامل تحدو بالفلسطيني إلى “أن يفجر نفسه في مطاعمنا، لأن له أطفالًا وآباءً شيوخًا جائعون”.

بمعنى آخر، إن تجاهل الاحتلال جميع المعايير الأخلاقية والإنسانية، سيفضي بدولته إلى الفناء، ذلك أنه حتى الاحتلال ينبغي أن يلتزم خطوطًا حمراء، وتجاوزها يمثل خطرًا وجوديًا عليه.

في تدبر ما يقترفه جيش الاحتلال، من مجازر على نحو قصف المستشفى المعمداني، واغتيال أسرة مراسل “الجزيرة” وائل الدحدوح، ومجزرة جباليا، واجتياح مجمع الشفاء، واستهداف المدارس، ما يؤكد أن الوحشية تجاوزت الخطوط جميعها، والظاهر أن أحدًا في الداخل الإسرائيلي، لا يقدر على كبح تطرف صقور الحكومة اليمينية.

 

أزمة الثقة بين الجيش ونتنياهو

 

ثمة عامل آخر من عوامل الهزيمة، وهو أزمة الثقة العميقة بين نتنياهو والجيش، وهو الأمر الذي طفا على السطح، عندما انتقد رئيس الحكومة مؤسساته الأمنية، كونها لم تتحسب لعملية “طوفان الأقصى” ما أسفر عن أخذ إسرائيل على حين غرة.

وقد اتسع الرتق على الراتق، بين السياسي والعسكري، بعد ما كتبه نتنياهو على شبكة التواصل الاجتماعي “إكس”: “لم أتلق تحذيرًا من الأجهزة الاستخباراتية من هجوم قد تشنه حماس”.

وكان ذلك في نحو الواحدة بعد منتصف الليل، ثم غط في نومه، حتى استيقظ صبحًا فإذا بنابل الساحة السياسية يختلط بحابلها، فقد تساءلت الصحافة: أي رئيس وزراء هذا الذي يهاجم قادة الجيش والمخابرات وهو يقود وإياهم حربًا مصيرية؟ وانتهز “يائير لبيد” زعيم المعارضة الزلة، فوصف خصمه بالأرعن، “وكان حريًا به أن يدعم الجيش لا أن يلومه”.

وأمام هذا “الطوفان” هرع نتنياهو إلى محو ما كتب، ثم سجل اعتذارًا: “ما كان ينبغي أن أدلي بهذه التصريحات”.

لكن هذا الاعتذار لم يسد “باب الريح”، فإذا بقادة عسكريين وأمنيين ينشرون تقارير صحفية، قبيل “طوفان الأقصى” وجميعها كانت تحذر من أن اقتحامات المسجد الأقصى من قبل المتطرفين اليهود، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير”، وتواطؤ رئيس الحكومة الضعيف معه، وكذا والاعتداءات على الممتلكات الفلسطينية، وإساءة معاملة الأسرى، ستفجر تصعيدًا بالغ الخطورة.

وهكذا يلوم السياسي العسكري، ويدين العسكري السياسي، فالقوم في “زنقة خانقة”، وهم يريدون التبرؤ من الهزيمة، لكنهم لدى انشغالهم ببعضهم بعضًا، ينسون أن ثمة تحديات أخطر تحدق بإسرائيل، إذ تخوض حربًا برية، ستخرج منها لا محالة، بهزيمة سياسية أفدح من “نكسة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول”، ذلك بغض النظر عما سيخلفه العدوان من دمار، وما سيريقه من دماء الفلسطينيين.

المصدر : الجزيرة مباشر