خيارات البحث عن عاصمة جديدة للسودان

البرهان

 

رغم أن الحديث عن عاصمة جديدة للسودان، بدلًا من الخرطوم، لم يكن مقبولًا لدى كثير من الناس، لكنه أخيرًا وبعد أن دمرت الحرب البنية التحتية، وهاجر ملايين السكان إلى مناطق بعيدة، وعاد أكثرهم إلى جذورهم في الولايات، أو ما عُرف بالرجعة إلى البيت القديم، انتقل النقاش، بصورة جادة هذه المرة، للبحث عن مدينة أكثر جاذبية، تصلح أن تكون عاصمة للسودان، وسط دعوات أخرى أيضًا للعودة إلى الخرطوم، والاعتناء بها وإنقاذها من الضياع.

في العام 1885، انتصرت الثورة المهدية بتحرير الخرطوم، وقتل أنصار المهدي الحاكم الانجليزي حينها تشارلز غردون. كانت المدينة قد تضررت كثيرًا جراء القصف الذي استمر أشهرًا عدة، وبعض أجزائها لم تكن صالحة للسكن، كما هو الحال اليوم، مما دفع الإمام المهدي إلى اختيار عاصمة جديدة هي أم درمان، وبعد أن اكتمل تجهيزها أرسل أنصاره لهدم المنازل التي كانت قائمة في الخرطوم، لأنها تُذكّرهم بالاستعمار، والفظائع وكثير من الممارسات الفاسدة.

أيام الخرطوم الحزينة

نظرات الحزن وأغاني الحنين والأشواق حبيسة الضلوع تحاصر سكان الخرطوم الذين هجروها مرغمين، وتركوا بيوتهم وسياراتهم وذكرياتهم، على أمل العودة، هؤلاء لا يمكن أن يستغنوا عن كل ذلك، ليصبحوا نازحين إلى الأبد، أو قابعين في متاهات “الدياسبورا”، ولذلك نشط ذلك الوسم على مواقع التواصل الاجتماعي، وسم العودة الحتمية، وتأكيد أن الخرطوم عاصمة السودان الوحيدة، وذلك نوع من المقاومة المدنية، يعترض بشدة على التدمير الممنهَج الذي قامت به قوات الدعم السريع من جهة، واختيار مدينة بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر من جهة أخرى، لتصبح عاصمة جديدة تحتضن الحكومة والسفارات، وتنطلق منها الطائرات إلى كل بقاع العالم، وقد أصبحت تلك المدينة الساحلية مقرًّا لعمل رئيس وأعضاء مجلس السيادة وبقية الوزراء، في تجريد للخرطوم من أهم ما كان يميزها في الماضي القريب “محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم”.

بورتسودان العاصمة الاضطرارية

أجد نفسي أغالب شعوري وأنا أعيش هذه الأيام، في مدينة بورتسودان، كأحد النازحين أيضًا، وأحيانًا مأخوذًا بجمالها وخصوصيتها ومراكز الغوص والاستجمام والشواطئ الرملية والشعاب المرجانية، بما في ذلك حطام السفن تحت الأمواج، إذ لا تزال قِبلة للسياح من كل بقاع العالم، لكنني لا أستطيع أن أتخيلها عاصمة للسودان، لأسباب تبدو منطقية، منها مناخها الحار المتطرف ودرجة الرطوبة العالية، وافتقارها إلى التخطيط الحضري، بما يؤهلها لتحتمل المزيد من الضغط السكاني، فضلًا عن عدم توافر مصادر المياه الصالحة للشرب، حيث يتم بيع المياه بعربات الكارو، وهذا ما جعل حتى أهلها يفرون منها في الصيف، دعك من الغرباء أمثالي، إلى جانب بعدها الجغرافي عن الولايات الأخرى، فهي ليست منطقة وسطى مثل الخرطوم، ولذلك لا تصلح أن تكون عاصمة بديلة، يمكن أن تكون مقرًّا دائمًا للشركات وبعض الوزارات والصناعات المرتبطة بالتصدير، وتُعقد فيها المؤتمرات العالمية أسوة بمراكش وجدة وشرم الشيخ، أو عاصمة تجارية وسياحية على ساحل البحر الأحمر.

عجز القادرين على التمام

ثمة خيارات أخرى لمدن يمكن أن تكون عواصم بديلة، مثل مدينة ودمدني حاضرة ولاية الجزيرة، الأقرب جغرافيًّا ووجدانيًّا إلى سكان الخرطوم، التي تصلح أن تكون عاصمة إدارية، بحكم أنها قابلة للتطوير وإعادة التخطيط وإنشاء مشروعات سكنية ذات بنية عمرانية مأمونة بمحاذاة النيل الأزرق، على طراز مدن الجيل الرابع، وبجوار مشروع الجزيرة الزراعي، على أن تحتفظ الخرطوم بموقعها عاصمة سياسية، وهي التي وقع عليها عبء مواجهة المشكلات العمرانية الناتجة عن النمو المتسارع، والانفجار السكاني المفرط، وموجات التغيير الديموغرافي.

رغم محاولات عرض الخرطوم نموذجًا لترييف المدن، لكن الحقيقة أن السمة الإفريقية غلبت عليها، نتيجة لنزوح سكان منطقة غرب وشرق إفريقيا إليها، فتغيرت ملامحها وثقافتها كثيرًا، إذ ليس منطقيًّا ولا دقيقًا وسم ما اعترى الخرطوم بالترييف، وإسقاط عجز خيال حكامها وساستها، مما يبدو من هذا البؤس والاختناق وتكدس النفايات والتشوهات العمرانية، بصورة كشفت عن عوراتها، رغم أن كل المدن تصاب بالانفجارات السكانية والهجرات، وتتعرض للحروب، لكنْ دائمًا ثمة حلول، نتعامل معها بعجز القادرين على التمام.

تحديات العاصمة المُثلثة

الخرطوم مدينة صنعها الاستعمار، وهي العاصمة المثلثة، لجمعها ثلاث مدن يفصل بينها نيلان، كان التصور الأولى للانجليز حينها أن تكون أم درمان والخرطوم بحري مدينتين صناعيتين، والخرطوم مدينة سكنية بهندسة معمارية خاصة، على أمل أن يحقق ذلك التوازن المطلوب بين الإرث الحضاري للمدينة، ومشكلاتها الحالية، واحتياجاتها المستقبلية. لكن الأوضاع السياسية المتقلبة، والمشكلات الأمنية المتراكمة، أملت عليها تحديات جديدة، تستوجب على الأقل نقل المقار العسكرية خارج المدينة، وتوزيع المصانع والشركات والبنوك على ولايات السودان المختلفة، حتى لا تتعطل حركة الاقتصاد والحياة عمومًا بسبب الحروب والمشكلات الأمنية الطارئة، وتعود الخرطوم إلى صورتها الأولى، مدينة هادئة ومتماسكة وسليمة مع نواة صلبة تُشكل منطقة الأعمال المركزية، دون أن تصادر أهمية المدن الأخرى في ولايات السودان، التي هجم بعض سكانها على الخرطوم، بحجة التهميش، أو لأنها شديدة الإغراء.

من المهم، وبعد تجربة الحرب، الطَّرق الجاد على خيارات البحث عن عواصم بديلة، لا عاصمة واحدة أسيرة لخدمة الطبقة الحاكمة والأثرياء، وإنما إنشاء مدن في مناطق مختلفة، على نسيج عمراني حديث، تقدّم المساكن وفرص العمل والتعليم، وتراعي بقدر معقول الاحتياجات الاجتماعية، ومنطلقات التنمية المستدامة.

المصدر : الجزيرة مباشر