قبل صفر الأولمبياد.. كيف نزيل “العار” على الطريقة الصينية؟!

الرئيس الصيني يلقي خطابًا في دورة الألعاب الأولمبية

لدى مصر إصرار قوي على أن تصبح أول مضيفة أفريقية للألعاب الأولمبية عام 2036. سبق أن تملّك الحكومة ذاك الإصرار عام 2003، عندما تقدمت للحصول على حق تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2010، الذي فازت به جنوب أفريقيا بأغلبية أصوات “الفيفا”، بينما خرجت مصر صفر اليدين، وأصبح يؤرَّخ له بـ”صفر المونديال”.

ستواجَه مصر بمنافسة شديدة في تنظيم الأولمبياد من دول كبرى مثل الهند وتركيا وإسبانيا، وأخرى نظمت المسابقة بنجاح مثل روسيا وبريطانيا. ستكون المنافسة أكثر شراسة، لأنها ستأتي بعد أولمبياد 2024 في باريس، ولوس أنجليس 2028، وأستراليا 2032. تنتظر مصر تحديات عميقة، وحتى لا تحصل على صفر آخر، عليها أن تراجع تجربة الصين التي صنعت من الأولمبياد تاريخا فاصلا، يؤرَّخ بها لما قبل أولمبياد بيجين 8-8-2008 وما بعده.

ملف الأولمبياد

فشلت بيجين في الحصول على حق تنظيم الأولمبياد مرات عدة، بسبب سجلها الدموي في سحق الشباب في ميدان تيانانمين عام 1989، وعدم احترام حقوق الأقليات، واضطهاد المعارضين، وملاحقتها لمنظمات المجتمع المدني. لم تغيّر حكومة الحزب الشيوعي وجهة نظر اللجنة الأولمبية والدول تجاه بيجين إلا في العقد الأخير من القرن الماضي.

أدركت حكومة بيجين أن الطفرة الصناعية والتجارية لم تمكنها من تحسين صورتها، فحرصت على توظيف قدراتها المالية الهائلة في استضافة الأولمبياد. انضمت الصين إلى منظمة التجارة الدولية، وحققت تقدما اقتصاديا واجتماعيا أخرج 800 مليون نسمة من تحت خط الفقر، وأدخل 400 مليون الطبقة الوسطى.

تقدمت بيجين بملف ضخم حول قدرتها على تنظيم الأولمبياد، مدعوما ببرنامج ثقافي وتحوّل في تعاملها مع منظمات المجتمع المدني وحقوق الأقليات، مع سماحها بشبكات خدمات الإنترنت الدولية، وحرية إنشاء المواقع الأجنبية وتصفحها، وإن ظلت تحت الرقابة الأمنية. ساعدت الدول الصين على الفوز بالأولمبياد، أملا في دعم الإصلاح السياسي والانفتاح على الثقافات الأخرى، وتخفيف قبضة القوميين الشيوعيين على الشباب، واضطهادهم للناشطين، خاصة في هونغ كونغ وتركستان الشرقية “شينجيانغ” والتبت.

بيجين تتغير

تحولت الأولمبياد إلى برنامج قومي شامل، تحت إشراف السلطة المركزية للحزب الشيوعي، برئاسة هو جينتاو رئيس الدولة السابق، وإدارة شي جين بينغ الرئيس الحالي، وكان حاكما لبيجين ومسؤول التثقيف السياسي بالحزب. خصصت اللجنة نحو 100 مليار دولار، لبناء مجمع أولمبي ضخم بالعاصمة ومدينة شنغهاي، وربط المدينتين بخط سكك حديدية سريعة، وأكبر مطارين بالدولة. عندما كنا نزور المدينتين خلال الفترة من 2002 إلى ما قبل الأولمبياد، وجدنا تغييرا شاملا مع كل زيارة، بداية من تحسين الخدمة في المطارات والطرق، إلى الإقامة بالفنادق، والسماح بعرض القنوات الفضائية الإخبارية العربية والأجنبية، ودخول الكتب وطباعة القرآن الكريم والإنجيل لتوزيعه على أعضاء الوفود.

ركزت مجموعة شي جين بينغ على إحداث تغيير كامل في العاصمة، بإزالة أحياء بأكملها، لشق الطرق وإقامة أحدث أسواق تجارية وتجمعات سكنية، والأهم إزالة “نقاط وصمة العار” التي كانت تلاحق الصين أمام الأجانب.

عادات سيئة

اعتاد الصينيون العيش داخل مجمعات سكنية، تحت رقابة الدولة، فلا يُسمح للأجانب بدخولها، وظلوا خلال تاريخهم الطويل، يستخدمون دورات المياه الجماعية داخل تلك التجمعات أو خارجها. من المعتاد أن يضع الفرد دلوا تحت سريره، ليتبول أو يتبرز فيه داخل غرفة النوم، والحمامات العامة مشتركة بين النساء والرجال. تطلق تلك الحمامات رائحة نتنة، تدفع الغريب إلى التقيؤ.

اعتدنا أن يساومنا سائقو التاكسي على الأجرة ومكان الوصول، ليختار بنفسه الزبون قبل التحرك، وعندما نجلس نشم رائحة أكثر نتانة من سابقتها، لأن الرجل الذي يعمل على مدار الساعة، يتبول في قارورة يضعها تحت مقعده، حتى يسكبها في مكان عام، بعيدا عن عيون الشرطة.

تجولنا في أسواق الأكل الشعبية، فلم يصمد أثناء المرور بها إلا القادرون على كتم أنفاسهم فترات طويلة، حتى يبتعدوا من أمام فرشات تبيع مأكولات ولحوم حيوانات من كل صنف، تصيب المرء بغثيان رهيب. لم نكن نأكل إلا الأسماك وما نحمله معنا من القاهرة، ولا نستطيع تغيير العملة الأجنبية إلا في الفنادق 5 نجوم، رغم انتشار السوق السوداء في أهم الشوارع التجارية الرئيسية، التي تديرها مافيا منظمة، ومعها شبكة قوادة واسعة، وجماعات لبيع أشهر الماركات العالمية المقلدة، والنصابون الذين يحومون حول الغرباء في أهم الأماكن السياحية والتجارية.

الافتتاح العظيم

ظلت حرية الإنسان والسفر والمعلومات ونظافة الحمامات ونوعية المأكولات مصدر شكوى للوفود التي استقبلتها الصين، ليشاهدوا حجم الاستعدادات التي تجهزها الدولة للأولمبياد. استجابت بيجين لكثير من المطالب، فنشرت حمامات عامة راقية في مختلف المناطق المحتمل مرور السائحين بها، خارج المدن وداخلها. فصلت بين حمامات الرجال والنساء، وإن ظل الحال على ما هو عليه في أنحاء البلاد، إلا أننا لم نشعر بذلك إلا عندنا تحركنا مع أصدقائنا الصينيين بعيدا عن المسارات الرسمية خارج العاصمة وشنغهاي. جاءت الأطعمة من كل حدب وصوب، وانتشرت المأكولات “الحلال”، وأعد (شي) افتتاحا تاريخيا للأولمبياد، ما زال الأفضل حتى الآن.

قبل “صفر الأولمبياد”

انحرفت الصين عن مسار انفتاحها الثقافي والسياسي، وتراجع الإصلاح خطوات، نحو القبضة الأمنية وملاحقة الناشطين والأقليات وخاصة المسلمين، ولكن ظلت النظافة العامة والمأكولات والانتقالات والإقامة في فنادق متعددة المستويات عوامل جذب للأجانب، جعلت من الصين دولة سياحية عظمي.

تتشابه حالة الصين معنا في كثير من نقاط العار التي سادت قبل أولمبياد بيجين، ويعلم المسؤولون أن “صفر المونديال” كان عظيما، لأن المحروسة لم تكن لديها حمامات عامة كافية للزائرين، ويتبول الناس تحت الكباري ونقاط الملاعب وحول الأماكن السياحية المتوقع زيارتها. لن تكون مباني العاصمة الإدارية هي العنصر الجاذب فقط للوفود. سيحرص الزائرون على الطواف بكل مكان في المحروسة، فإذا تجاهلنا ملف حقوق الإنسان المتدهور والقبضة الأمنية، فهل لدينا رغبة في الفوز بدون التبول في الشوارع، أم ننتظر “صفرا جديدا” للأولمبياد لنطالب بالتغيير؟!

المصدر : الجزيرة مباشر